هنــد بنت أبى أمية
" أم سلمى المخزومية " رضى الله عنها
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أوفى الناس لأصحابه فى حياتهم وبعد مماتهم ، فقد كان يتفقدهم، يسأل عن غائبهم ،ويعود مريضم، ويشيع من مات منهم إلى مثواه الأخير، ويزورهم فى قبورهم يترحم عليهم ويستغفر الله لهم . كما كان يسأل عن أولادهم ويعطف عليهم ، ويعطيهم من قلبه الكبير ما يجعلهم يشعرون بالدفء والأمن وكأن أباهم بينهم وأكثر. وشمائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك كثيرة.
وأمام أعيننا صورة لهذا الوفاء النادر الذي تحلى به نبي الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ذلكم هو زواجه (صلى الله عليه وسلم) من هند بنت أبي أمية رضي الله عنها.
اسمها ونسبها
اسمها هند بنت أبى أمية بن المغيرة المخزونية القرشية ، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك الكنانية ، من بنى فراس، وأبوها من رجال قريش المعدودين . وكان مشهورا بالكرم، كان إذا سافر معه صحبة أو جماعة يكفيهم المؤونة ، ولذا لُقِّب ب" زاد الراكب " فهى من سلالة طيبة ذات مجد كريم.
زواجها الأول
تزوجت هند من عبد الله بن عبد الأسد المخزومى، وعاشت معه عيشة طيبة ظللتهما، حتى إذا بَشَّرَ الرسول بالدين الجديد ودعـا إلـى الإسلام الحنيف ، كان عبد الله المخزومي من السابقين إلى الإسلام، المؤمنين بما بلغ سيدنا محمد الأمين.
إلى الحبشة
اعتنق عبد الله الإسلام عن يقين وإيمان ، ودعا زوجته هند بنت زاد الراكب فأسلمت وآمنت، وصدقت بكلمات ربها وحفظتها ، وامتدت يد المشركين ، بالإيذاء إلى عبد الله وزوجته، فاحتملا وصبرا واحتسبا عند الله الكبير المتعال. ومضت الأيام والإيذاء يزداد يوماً بعد يوم، حتى أذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، لأن المسلمين فى إمكانهم أن يعيشوا بجوار ملكها في أمن على عقيدتهم.وعلى أرض الحبشة ولد لهما أول مولود، وسُمِّىَ "سَلَمَة" ومن هذا التاريخ لُقِّبَت هند بأم سلمة ، كما لُقِّبَ زوجها بأبي سلمة.
وفي تلك الأثناء وصلت إشاعة كاذبة بأن قريشاً أسلمت، ولما عاد المهاجرون وجدوا أن قريشاً مازالت على الكفر والعناد، وقد دخل كل مهاجر فى جوار أحد رجال قريش ، ودخل أبو سلمة وزوجته في جوار أبى طالب بن عبد المطلب، فهو ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من جهة وأخوه في الرضاعة من جهة أخرى.
حادث أليم
عاشت سيدتنا هند أم "سلمة " في مكة بعد العودة من الحبشة، وهى ترى الرسول يربي أصحابه وينمي الإحساس بالمسئولية تجاه الإنسانية الحائرة، ويعلمهم الدين، ويغرس فى نفوسهم التضحية في سبيل المبدأ والعقيدة، والدفاع عن الوطن. وتلحظ الرسول فى غدوه ورواحه ، وتنعم عيناها برؤيته معلماً وهادياً وبشيرا رحيما ، حتى أُمِرَ بالهجرة للمدينة، وأذن لأصحابه بالهجرة، واستعد أبو سلمة للهجرة، وقد أعدَّ لذلك راحلة ليأخذ معه زوجته المؤمنة الوفية أم سلمة .وعند مشارف مكة لحق به بعض بني المغيرة "أهل أم سلمة" وقالوا له : هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها فى البلاد؟ ثم أخذوها وردوها معهم ومعها وليدها الصغير ، فغضب من هذا الصنيع بنوعبد الأسد " أهل زوجها"، فأرادوا أخذ الطفل، وكان بينهما تجاذُبٌ أدَّى إلى خلع يد الطفل الصغير، ثم أخذ الولد أهل زوجها، وظلت هى مع أهلها بعيدة عن زوجها وولدها.
ومضت الأيام وهى فى سيرها بطيئة ، والحزن يعتصر قلبها والهم يزحف عليها، حتى رأها أحد أبناء عمومتها ورأى ما بها ، فَرَّقَ لحالها، وأخذ يشفع لها عند أهلها أن يتركوها لتذهب إلى زوجها، وأخيراً أذنوا لها أن تهاجر ، وعند ذلك رد بنو عبد الأسد ولدها إليها، وجهزت نفسها، وأعدت راحلة لتهاجر عليها، وكانت وحيدة لأن الكل قد هاجر وليس بمكة أحد ، وخرجت حتى إذا كانت بالتنعيم – على بعد فرسخين من مكة – لقيها عثمان بن طلحة – وكان مازال على الشرك – وسألها : إلى أين يا بنت أبى أمية ؟ فقالت : أريد أن ألحق بزوجي في المدينة. فقال : أَمَعَكِ أحد ؟ فقالت : معي الله. فانطلق معها عثمان بن طلحة يأخذ بخطام بعيرها. وكان أميناً شهماً كريماً، عاملها بالإحسان والرفق حتى وصلت إلى زوجها راضية مرضية . تأمل عناية الله حيث يسخر لها هذا الإنسان الذي مازال على الشرك يقود بعيرها ويحرسها، ولحقت الزوجة الوفية بزوجها بعد فراق دام مـا يقـرب مـن سنة، بكت كثيـراً وحزنت حـزنـاً عظيمـاً، ولكن ) مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ( يوسف.
والتأم شمل الأسرة من جديد ، وبدأت السعادة تعرف طريقها إلى الزوجين الوفيين،وكانت الثمرة المباركة إنجاب ثلاثة أطفال غير "سلمة" الذي ولد في الحبشة، وهم : عمر، ورقية، وزينب.
البطل
تحركت قريش لجمع الأحزاب والتحالف مع اليهود سراً وجهراً لملاحقة الإسلام ومناهضته، والصد عنه، وإعلان الحرب عليه، فكان لابد من رد فعل من قبل المسلمين بوقف هؤلاء الذين ملكهم الغرور عند حد معين، ولذا فرض الله الجهاد على المسلمين فقال سبحانه : ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ (الحج.
ولذا كان الرسول(صلى الله عليه وسلم) يخوض مع أصحابه الحرب ضد هؤلاء المعتدين ومن خير الأبطال الذين وقفوا معه عبد الله المخزومى "أبو سلمة" ، فكان في غزوة "بدر" له جولات مُشَرِّفَة، وكذلك فى غزوة "أحد" وأصيب بجرح عميق، وقد استعمله الرسول (صلى الله عليه وسلم) قبل ذلك على المدينة، وأمره – عليه السلام – على سرية توجهت لبني أسد، وكان إمرته سعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح ، مما يدل على مكانته عند القائد العام للدولة الإسلامية نبي الإسلام.
ورجع البطل من هذه السرية وهو مُتَوَجٌ بالنصر، إلا أن جُرحه قد عاوده ولزم بيته، وزاره النبي العظيم وهو على فراش الموت، حتى إذا دنت الساعة الأخيرة كان الرسول بجانبه يدعو له بالخير، وأسبل بيده الكريمة عينيه، ثم صلي عليه وكبَّر تسع تكبيرات ، فقيل له : يا رسول الله ، لقد كبَّرت تسعاً . أسهوت أم نسيت؟ فقال: " لم أَسْهُ ولم أَنْسَ ، ولو كَبَّرْتُ على أبى سلمة ألفا كا أهلا لذلك" وهذا يدل على عُلُو قدره وعظيم منزلته. والتفت الرسول إلى أم سلمة وقال لها: " سلي الله أن يؤجرك فى مصيبتك ويخلفك خيراً".
الخطبة
ما إن انتهت أيام الحداد على الزوج الكريم حتى تقدم شيخ الصحابة " أبو بكر الصديق" إلى أم سلمة يخطبها ليحفظ ود أخيه في الإسلام ويرعى أولاده ، ولكنها رفضت برفق ولين. ثم تقدم عمر بن الخطاب الشهم الكريم لخطبتها، فكان الجواب كالأول، ثم قالت: ومن يكون خيراً من أبي سلمة ؟" ثم أرسل الرسول - صلوات الله وسلامه عليه – يخطبها لنفسه، فوجدت أن هذا الشرف تتمناه أي امرأة فى المجتمع، ولكنها فكرت وأرسلت تقول : يا رسول الله، إنني امرأة مسنة وأم عيال وعندي غيرة فأرسل الرسول عليه السلام يقول لها : " أما أنك امرأة مُسِنَّة فأنا أكبر منكم ، ولا يُعَابُ على المرء أن يقال تزوج من هى أَسَنُّ منه، وأما قولك إنك أم عيال أيتام فإنهم كلهم على الله ورسوله، وأما قولك إنك شديدة الغيرة فإنى أدعو الله أن يذهب عنك غيرتك". وتمت الخطبة ، وتزوجها الرسول الكريم، وانتقلت لتأخذ مكانها في المجتمع الإنساني كأم للمؤمنين وكان مكانها فى البيت النبوي الكريم في المكان اللائق بها كربة بيت ترعى شؤونه، وكأم للمؤمنين ترعى شؤونهم، وتعطف على ذى الحاجة منهم.
فى بيت النبوة
انتقلت " أم سلمة" إلى بيت النبوة وأخذت مكانتها بين نساء النبي الكريم، وكانت برغم تقدم سنها تمتعت بقسط وافر من الجمال، مما جعل السيدة عائشة رضي الله عنها تقول : "لما تزوج الرسول (صلى الله عليه وسلم) "أم سلمة" حزنت حزناً شديداً لما ذكر لي من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها ، فرأيت والله أضعاف ما وُصِفَت به " ولكنها لم تكن تدل بجمالها ، بل هناك منزلة العِزِّ التي عاشت فيها وورثتها عن أجدادها، ثم فوق ذلك سابقتها للإسلام، وهجرتها ، وتحملها المشاق والصعاب فى سبيل العقيدة والمبدأ، وهى زوجة رجل أعطى حياته للإسلام ، وأم أيتام تركهم أبوهم أمانة ووديعة بين يدي المسلمين ونبيهم الكريم ، والوحي لم ينزل في أي بيت من نساء النبى إلا السيدة عائشة رضي الله عنها تباهي بذلك، حتى إذا جاءت "أم سلمة" وانضمت إلى الركب الطاهر نزل الوحي فى بيتها، وَرُتِّلَت آيات السماء في حجرتها ندية مضيئة. كما أنها صحبت الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى مكة في العام السادس الهجري ( عام الحديبية )، وكان لها دور كير فى المشورة على النبى عندما أراد المسلمون تغيير العهد الذي أُبْرِم بين النبي وأهل مكة ، وحدثت هناك تساؤلات : لِمَ نُعْطِ الدَّنَيِةَ في دِينِنَا؟ وأصبح الجو ينذر بالخطر ، حتى إن الرسول أمر أصحابه أن ينحروا، ويحلقوا، فما قام منهم أحد، فأشارت عليه "أم سلمة" برأي هو الصواب ، فقالت : اخرج ولا تُكَلِّم منهم أحداً فتنحر وتدعو حالقك يحلق لك وفعل النبي ذلك، فتبعه المسلمون.
وكانت فى صحبة النبي فى فتح مكة وفي بعض الغزوات الأخرى، وعاشت وهى ترى نصر الله يتحقق للبطل الكريم الذي مَثَلُهُ كمثل الشمس ، كل شخص يتمتع بها، ويظن أنه وحده الذى يتمتع بالدفء. حتى إذا انتقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى ربه راضياً مرضياً، بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، لزمت سيدتنا أم سلمة بيتها لم تبرحه ، وتجنبت الخوض فى معترك الحياة العامة، حتى انتقلت إلى ربها راضية مرضية سنة 59 ه، ولها من العمر أربعة وثمانون عاماً، وصلي عليها أبو هريرة رضى الله عنها ، وَدُفِنَت بالبقيع.