العودة للصفحة الرئيسية

أم المؤمنين سودة بنت زمعة
يظن كثير من الناس أن عظمة الرجل لا تكتمل إلا إذا امتلك الضياع وحاز تحت يده النساء والخدم. ولذا يفتري كثير من المستشرقين على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتجنون على عظمة هذا النبي الكريم، ويتهمونه بأنه رجل قد أخذ بعقله الهوى، وأن عظمته كانت فى كل شيء حتى فى شهوات الدنيا.
والمتأمل في تاريخ هذا النبي العظيم يجد أن حياته قبل الزواج تُعرَف بالعِفَة، وتوصف بالفضيلة، مع أن البيئة العربية كانت النساء فيها متبرجات، يبدين الزينة، ولا ترد المرأة يد لامس، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي أعده الله للرسالة، له من وسامة الطلعة، وريعان الفتوة، وجمال الرجولة، ما يهفو إليه قلب كل امرأة، وتتمناه كل فتاة.
ولكنه مع انتشار فساد الأخلاق وانهيار القيم ظل متمسكاً بشرفه يصون عرضه عن كل دنس، ويربأ بنفسه عن كل مايصله بأفعال الجاهلية، حتى إذا بلغ من العمر خمساً وعشرين سنة ارتبط بالسيدة خديجة رضي الله عنها زوجة وفية، طاهرة نقية، شريفة عفيفة، بعد أن مات زوجها عنها. وعاش النبي الكريم معها عيشة كلها حب ونقاء، مع إنجاب البنين والبنات، إلى أن بلغ من العمر أكثر من خمسين عاماً وهو راضى عن حياته، سعيد بزواجه، ولم يشرك معها زوجة أخرى، حتى إذا ما انتقلت إلى جوار ربها راضية مرضية عاش بعد وفاتها يرعى بيته، فى سبيل تبليغ رسالته، والأيام تمضي ثقيلة الخطوات، وهو مرهق بأعباء الجهاد في تبليغ الرسالة، وخلو بيته من الزوجة الحبيبة الوفية التي كانت تشجعه وتواسيه وتشد من أزره، وتجعله لا يفكر إلا فى أداء الرسالة. وكان الصحابة يلاحظون آثار الحزن بادية على وجهه، فيشفقون عليه، ويريدون أن يفاتحوه لسؤاله عما يشغله علهم يستطيعون تقديم ما يملكون، ولكنهم كانوا يتهيبون ذلك إجلالاً وتقديراً لشخصه النبيل. حتى إذا ما انتهت أيام الحداد على خديجة تقدمت السيدة "خولة بنت حكيم " وقالت : " يارسول الله، كأني أراك قد دخلتك خَلَّةٌ (أى اضطراب الشىء وعدم انتظامه) لفقد خديجة فأجاب " أجل، كانت أم العيال وربة البيت" فاقترحت عليه أن يتزوج. فقال لها: "من بعد خديجة؟". فردت عليه "خولة" وقالت: " عائشة بنت أحب الناس إليك" فقال "ولكنها لاتزال صغيرة يا خولة"، فقالت: "تخطبها اليوم إلى أبيها ثم تنتظر حتى تنضج". قال: "ولكن، من للبيت يرعى شؤونه؟ ومن لبنات الرسول يخدمهن؟"، فقالت خولة: "هل لك فى ثيب؟، قال: "ومن هى؟"، فأجابت : " إنها "سودة بنت زمعة" المؤمنة المهاجرة، التي فقدت زوجها بعد الأوبة من الهجرة للحبشة، وهى معرضة لأن يعذبها قومها ويفتنوها، والزواج بها فيه كفالة لها، وتأليف لبنى عبد شمس". فوافق النبي الكريم على الزواج منها.
ومنذ تلك اللحظة دخلت "سودة" التاريخ وتبوأت مكاناً مرموقاً تهفو إليه النفوس، وتتطلع إليه العيون.
نسب السيدة سودة
هى سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، العامرية، القرشية، أول زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي عنها. وأمها الشموس بنت قيس بن عمرو بن زيد بن لبيد من بني النجارمن الأنصار. فمن ناحية الأب قرشية عربية، ومن ناحية الأم من بني النجار أخوال الرسول صلى الله عليه وسلم. 
زواجها الأول
تزوجت سودة ابن عمها السكران بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وقد عاشت معه عيشة طيبة هنية، حتى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بدعوته، فكانت من السابقات للإسلام، وكذا زوجها، وتعرضا للعذاب بسبب الإسلام، فهاجرا إلى الحبشة، وكان معهما أخوها مالك بن زمعة وزوجته عمرة بنت السعدي بن وقدان، ومن أسرة زوجها أخواه سُليط وحاطب ولدا عمرو بن عبد شمس، وابن أخ لزوجها عبد الله بن سهيل بن عمرو، ومن النساء أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو.
وهكذا نرى أن معظم الأسرة التي كانت فيها سودة قد هاجرت في سبيل الله، مضحية في سبيل العقيدة بالبعد عن الوطن، متحملة أقسى ما يكون في سبيل التمسك بالمبدأ، وفي وسط أسرة لها قدم السبق في الإسلام.
رؤيا صادقة:
ذكر ابن سعد في طبقاته الكبري أن السيدة "سودة بنت زمعة" وهى زوجة لابن عمها- السكران بن عمرو- قد رأت في المنام "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وطئ على عنقها. فأخبرت زوجها بذلك، فقال: لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك رسول اللهصلى الله عليه وسلم". فقالت "سودة" لزوجها: "حجراً وستراً" كأنها تنفي ذلك.
ثم رأت بعد ذلك في المنام أيضاً "أن قمراً انقض عليها من السماء وهى مضطجعة"، فأخبرت زوجها بذلك فقال لها: "وأبيك لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت وتتزجين من بعدي...".
عودة إلى الوطن:
وعادت الأسرة المهاجرة إلى مكة حيث الرسول الحبيب يبلغ دعوة ربه وينشر رسالة السلام والأمان، وكانت سودة متعطشة إلى لقاء الهادي الأمين، حيث يتنزل عليه الوحي من السماء وآيات القرآن البينات تتنزل جلية ندية، تنير القلب، وتثبت الفؤاد، وتهدي للتي هى أقوم. وما لبث السكران زوج سودة أن انتقل إلى جوار ربه قرير العين، رضيَّ النفس، لأنه مات على أرض الوطن، وقد اكتحلت عيناه برؤية رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، وترك زوجته وديعة بين إخوانه من المسلمين، وعلى رأسهم النبي الكريم. وشعرت "سودة" بلوعة الفراق، وخافت على نفسها من قومها أن يبعدوها عن جو الإيمان وهى ليس فيها مطمع للرجال، لأنه لم يكن لها من الجمال أو الثراء نصيب، ولكن الذي لها أنها زوجة لرجل من السابقين إلى الإسلام، وأنها هاجرت إلى الحبشة ولقيت من الأذى في سبيل العقيدة الكثير.
موافقة الرسول:
عندما ذكرت خولة لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) "سودة" وأمرها، رضي بها زوجة إكراماً لمنزلة زوجها، وتطييباً لخاطرها وسابقتها للإسلام، وليعولها بعد أن مات العائل، لأنه(صلى الله عليه وسلم) هو القائل: "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك أولاداً فعلىَّ وإلىَّ". وهو الذي وصفه ربه بأنه: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾ سورة التوبة.
وذهبت "خولة" لبيت "سودة" تزف إليها البشرى بهذا النبأ السعيد، وما إن أخبرتها بذلك حتى داخلتها رهبة من جلال هذا الزواج، إنها قاست نفسها بخديجة ذات المال والجمال، فعرفت أن الرغبة لهذا الزواج نفسية الرسول العطوف الودود، فكادت أن ترفض، ولكنها ما لبثت أن سكنت ورضيت. وبني بها الرسول(صلى الله عليه وسلم) في رمضان من السنة العاشرة من البعثة، ودخل عليها بمكة، وهاجرت معه إلى المدينة، ولقد أرضاها كل الرضا أن تأخذ مكانها في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد خديجة وقبل عائشة- رضي الله عن الجميع- وأنها أصبحت في بيت النبوة يسعدها أن ترى النبي(صلى الله عليه وسلم) صباحاً ومساءً تخفف آلامه، وتخدم عياله، وترعى شؤونه. ولقد كانت رضي الله عنها طويلة اليد بالخير والتصدق علي الفقراء، وكانت تخفف آلام المكروبين. ولقد عاشت في بيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى جاءت عائشة بنت أبي بكر زوجة شابة، فأفسحت لها المكان الأول في البيت، وآثرت "بإخلاص" هذه الزوجة الجديدة بالعطف والمحبة. ثم وفدت بعد ذلك إلى بيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زوجات أخريات اقتضت الحكمة أن يلتحقن بالبيت النبوي الكريم، وأن يكن من أمهات المؤمنين، وقد عدل الرسول الأمين(صلى الله عليه وسلم) بينهن في العطاء، وقسم لكل واحدة منهن ليلة.. وظلت سودة رضي الله عنها الزوجة الأولى بعد خديجة- رضي الله عنها- على العهد بها، راضية مطمئنة، لم يظهر عليها الضيق أو التبرم، لأن الذي يهمها هو إرضاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ورضاه عنها، وكانت عواطفها نبيلة، فأفسحت مكانها، وتنازلت عن ليلتها بطيب نفس منها للسيدة عائشة رضي الله عنها، وعاشت في بيت النبوة تسعد بالقرب، وتحظى بالعطف، بقولها: "والله ما بي على الأزواج من حرص ولكني أحب أن يبعثي الله يوم القيامة زوجة للرسول(صلى الله عليه وسلم)".
وذلك هو الشعور الطيب، والمثل العالي، حتى إذا حج الرسول(صلى الله عليه وسلم) حجة الوداع حجت معه واعتمرت، وعاشت في بيت الطهر والعافية، حتى انتقل الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى وهو عنها راضي.
نهاية المطاف:
ظلت سيدتنا السيدة سودة رضي الله عنها قعيدة الدار، لم تبرح مكانها ولا بيتها بعد انتقال زوجها الكريم(صلى الله عليه وسلم) للرفيق الأعلى، وهى تقول: "والله لا تحركني دابة بعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم). وظلت محل احترام الجميع ورعاية ولاة الأمور، يزورها أهل العلم والفضل، ويتردد عليها أهل التقوى والصلاة، فتزودهم بما تعرف، وتروي لهم ما رأته من أفعال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، حتى انتقلت إلى ربها في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ودفنت بالمدينة راضية عن حياتها، مرضية عنها من ربها، لأن الرسول(صلى الله عليه وسلم) انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو عنها راضي. وظلت أم المؤمنين عائشة تذكر لها صنيعها، وتؤثرها لجميل الوفاء فتقول: "ما من امرأة أحب إلي من أن أكون في مسلاخها، من سودة بنت زمعة...".
تلك نبذة قصيرة عن سيدتنا "سودة" رضي الله عنها، فسلام عليها في الأولين والآخرين، ورضوان الله على جميع أمهات المؤمنين، اللاتي قال الله فيهن: ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)﴾ سورة الأحزاب.