العودة للصفحة الرئيسية

1- "الكونت هنري دى كاستري".
لقد درس "الكونت هنري دي كاستري" الإسلام دراسة عميقة، وكتب عنه كتابا قيمًا، ترجمه المرحوم فتحي زغلول، ونشر بعنوان: "الإسلام سوانح وخواطر".
وقصة تفكيره في دراسته للإسلام قصة طريفة:
كان من كبار الموظفين بالجزائر، برغم سنه المبكرة، وكان يسير ممتطيًا صهوة جواده، ويسير خلفه ثلاثون من فرسان العرب الأقوياء، فخورًا بمركزه، وكان يملؤه الغرور، للمدح الذي يزجيه إليه هؤلاء الذين تحت إمرته.
وفجأة وجدهم يقولون له، في شيء من الخشونة، وفي كثير من الاعتداد بالنفس:
"لقد حان موعد صلاة العصر"...
ودون أن يستأذنون في الوقوف، ترجلوا واصطفوا للصلاة متجهين إلى القبلة، ودوت فى أرجاء الصحراء كلمة الإسلام الخالدة:
"الله أكبر.."..
شعر الكونت في هذه اللحظة بشيء من المهانة في نفسه، وبكثير من الإكبار والإعجاب بهؤلاء الذين لا يبالون به، ذلك لأنهم اتجهوا إلى الله وحده، بكل كيانهم، وبدأ يتساءل:
ما الإسلام؟ أهو ذلك الدين الذي تصوره الكنيسة في صورة بشعة تنفر منها النفس، ولا يطمئن إليها الوجدان...؟
وبدأ يدرس الإسلام، وتغيرت فكرته عنه، ورأى من واجبه أن يعلن ما اهتدى إليه، فكان كتاب: "الإسلام خواطر وسوانح".
وفي هذا الكتاب الطريف: تحدث عن كثير من جوانب الإسلام سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالرسول، أم فيما يتعلق بالتعاليم الإسلامية. وقد تحدث - فضلاً عن ذلك – عن آراء مواطنيه، خصوصًا القدماء منهم في صورة من السخرية، والتهكم.
"وذهبوا إلى أن محمدًا وضع دينه بادعائه الألوهية.
ومن المستغربات قولهم: أن محمدًا الذي هو عدو الأصنام، ومبيد الأوثان: كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب، كما كان يعتقد "والكرلوفنجيون".
ثم يأخذ الكونت في الرد على الافتراءات، ومن أولى هذه الافتراءات: أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان يقرأ ويكتب، فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل وأخذ تعاليمه منهما.

وقد رد القرآن على هذه الفرية فقال:
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذاً لارتاب المبطلون)..
ويقول الكونت في هذا المعنى:
1- "ما كان يقرأ ولا يكتب، بل كان كما وصف نفسه مرارًا – نبياً أميًا- وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس. لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار.
أما فكرة التوحيد: فيستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مطالعته التوراة والإنجيل، إذ لو قرأ تلك الكتب لردها لاحتوائها على مذهب التثليث، وهو مناقض لفطرته، مخالف لوجدانه منذ خلقته، فظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته، وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته".
أما صدق الرسول وسمو رسالته، فقد أخذ كثير من رجال الكنيسة ومن رجال الاستعمار يشككون فيهما وبرغم الوضوح الواضح في صدق الرسول وفي سمو الرسالة الإسلامية، فإن رجال الدين المسيحيين ورجال الاستعمار لا يزالون يبدأون ويعيدون في ترداد التشكيك. إلى هؤلاء وأولئك يقول الكونت: "والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك الآيات عن رجل أمي، وقد اعترف الشرق قاطبة بأنها آيات يعجز فكر بني الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظًا وموضوعًا آيات لما سمعها عتبة بن ربيعة حار في جمالها، وكفى رفيع عبارتها لإقناع عمر بن الخطاب، فآمن برب قائلها، وفاضت عين نجاشي الحبشة بالدموع لما تلا عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم، وما جاء في ولاية يحيي، وصاح القسيس: إن هذا الكلام وارد من موارد كلام عيسى!
2- أما هؤلاء الذين بلغ بهم التعسف مداه: فظنوا أن هذه الفترات التي يغيب فيها الرسول عن هذا العالم ليكون بكليته مستغرقًا فى الملأ الأعلى، إنما هى فترات مرضية، أو هى الصرع، وبرغم تكذيب الطب لمزاعمهم مستندًا إلى الاختلاف الكلي بين أعراض الصرع وأعراض الوحي، فقد أعماهم التعصب عن رؤية الحقيقة. وإليهم يقول الكونت:
" ومن ذلك الحين – أي البعثة- أخذت شفتاه تنطلق بألفاظ بعضها أشد قوة وأبعد مرمى من بعض، والأفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى أن يقف لسانه ولا يطيعه الصوت، ولا يجد من الألفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفع عن مدارك الإنسان، وسما عن أن يترجمه قلم أو لسان.
وكانت تلك الانفعالات تظهر على وجه بادية، فظن بعضهم أن به جنة، وهو رأي باطل، لأنه بدأ رسالته بعد الأربعين، ولم يشاهد عليه قبل ذلك أي اعتلال في الجسم أو اضطراب في القوة المادية، وليس من الناس من عرف الناس جميعًا أحواله في حياته كلها مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد وصل المحدثون عنه إلى أنهم كانوا يعدون الشعر الأبيض في لحيته، ولو أنه كان مريضًا لما أخفى مرضه لأن المرض في مثل تلك الأحوال يعتبر أمرًا سماويًا عند الشرقيين.
وليست حالة محمد صلى الله عليه وسلم وانفعالاته وتأثراته بحالة ذي جنة، بل كانت مثل التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها:
"ولقد شعرت بأن قبلي انكسر بين أضلعي، وارتعشت مني العظام، فصرت كالنشوان، لما قام بي من الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة".
ونختم الحديث عن آراء الكونت بهذا الوصف الرائع لتلك الساعة الأليمة، التي فارق فيها الرسول عالمنا الدنيوي، ليلحق بالرفيق الأعلى، ولينعم برضوان الله، إذ يقول:
"ولما أحس بقرب الأجل ذكر الفقراء فإنه لم يرغب طول حياته في المال، بل كان كلما جمع إليه شيء منه أنفقه في الصدقات، وكان قد أعطى عائشة مالا يسيرا لتحفظه، فلما حضره المرض أمر بإنفاقه على المعوزين لساعته، وغاب في سِنَة، ولما أفاق سألها إن كانت أنفذت أمره، فأجابته: كلا، فأمر بالنقود وأشار إلى الأسر المعوزات، فوزع عليهم وقال: "والآن استراح قلبي، فإنني كنت أخشى أن ألاقي ربي وأنا أملك هذا المال..".