العودة للصفحة الرئيسية

كارلايل
وكارلايل أحد كبار كتاب الانجليز، شاعري النزعة والفطرة، متحرر من الرياء والخبث، يتتبع البطولة، فيكتب عنها ويمتدحها، ويحبب الناس في السمو بأنفسهم إلى منازل الأبطال، أو على الأقل إلى التشبه بهم، وقد أثار كتابه: "الأبطال" إعجابًا في ميدان الفكر العالمي، وترجم إلى كل اللغات الحية، وحينما ترجمه المرحوم محمد السباعي إلى اللغة العربية، أثار الكثير من الإعجاب، وفي هذا الكتاب فصل مستفيض عن حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نقتطف منه ما يلي:
" من العار أن يصغى أي إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين. إن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا لم يكن على حق.
لقد آن لنا أن نحارب هذه الادعاءات السخيفة المخجلة، فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي، ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان، لملايين كثيرة من الناس، فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة التي عاشت عليها هذه الملايين، وماتت، أكذوبة كاذبة، أو خديعة مخادع؟ ولو أن الكذب والتضليل يروجان عند الخلق هذا الرواج الكبير لأصبحت الحياة سخفًا وعبثًا، وكان الأجدر بها ألا توجد.
هل رأيتهم رجلاً كاذبًا، يستطيع أن يخلق دينًا، ويتعهده بالنشر بهذه الصورة؟
إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتًا من الطوب، لجهله بخصائص مواد البناء، وإذا بناه فما ذلك الذي يبني إلا كومة من أخلاط هذه المواد، فما بالك بالذي يبني بيتًا دعائمه هذه القرون العديدة، وتسكنه هذه الملايين الكثيرة من الناس؟
وعلى ذلك فمن الخطأ أن نعد محمدًا رجلا كاذبًا متصنعًا، متذرعًا بالحيل والوسائل لغاية أو مطمع... وما الرسالة التي أداها إلا الصدق والحق . وما كلمته إلا صوت حق صادق صادر من العالم المجهول.. وما هو إلا شهاب أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أحب محمدًا، لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن الصحراء مستقل الرأي، لا يعتمد إلا على نفسه، ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبرً ولا ذليلاً، فهو قائم في ثوبه المرقع، كما أوجده الله يخاطب بقوله الحر المبين، أكاسرة العجم، وقياصرة الروم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة. والحياة الآخرة.
ويزعم المتعصبون أن محمدًا لم يكن يريد بدعوته غير الشهرة الشخصية والحياة والسلطان.. كلا واسم الله.
لقد انطلقت من فؤاد ذلك الرجل الكبير النفس، المملوء رحمة وبرًا وحنانًا، وخيرًا ونورًا وحكمة، أفكار غير الطمع الدنيوي، وأهداف سامية غير طلب الجاه والسلطان.
ويزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمدًا وآثاره، حمق وسخافة وهوس إن رأينا رأيهم. أية فائدة لرجل على هذه الصورة في جميع بلاد العرب، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى وجميع ما بالأرض من تيجان.
لم يكن كغيره، يرضى بالأوضاع الكاذبة، ويسير تبعًا للاعتبارات الباطلة، ولم يقبل أن يتشح بالأكاذيب والأباطيل.
لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة. ويخالق الكون والكائنات، لقد كان سر الوجود يسطع أمام عينه بأهواله ومحاسنه ومخاوفه.
لهذا جاء صوت هذا الرجل منبعثًا من قلب الطبيعة ذاتها.. ولهذا وجدنا الآذان إليه مصغية، والقلوب لما يقول واعية.
لقد كان زاهدًا متقشفًا في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه، وسائر أموره وأحواله، فكان طعامه عادة الخبز والماء، وكثيرًا ما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار.
فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد رجل متقشف، خشن الملبس والمأكل، مجتهد في الله. دائب في نشر دين الله ، غير طامع إلى ما يطمع إليه غيره من رتبة أو دولة أو سلطان.
ولو كان غير ذلك لما استطاع أن يلاقي من العرب الغلاظ احترامًا وإجلالا وإكبارًا، ولما استطاع أن يقودهم ويعاشرهم معظم وقته، ثلاثًا وعشرين حجة وهم ملتفون حوله، يقاتلون بين يديه ويجاهدون معه.. لقد كان في العرب جفاء وغلظة، وكان من الصعب قيادتهم وتوجيههم، لهذا كان من يقدر على ترويضهم وتذليلهم بطلاً، وأيم الله.
ولولا ما وجدوا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته، ولما انقادوا لمشيئته.
وفي ظني أنه لو وضع قيصر بتاجه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته، كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع".
هكذا تكون العظمة.
هكذا تكون البطولة.
هكذا تكون العبقرية.

كلمة الحق لتوماس كارليل عن عظمة محمد واخلاصه:
 " لقد كان محمد مصلحا عظيما، ولم يكن دجالا، أو مريضا بالأعصاب أو الصرع . ولكنه كان رجلا كريم الخلق قوى الإرادة والعزيمة، لم يفكر في منفعته الشخصية ، ولكنه كان يفكر في غيره من الفقراء . ولم يكن مستبداً في أحكامه، بل كان مثالا للعدالة في الحكم، ينير الطريق لغيره، ويرشد الضال، وينشد المحبة بين الناس ولم يكن محبا لنفسه، بل كان محبا لغيره، أمينا في أداء رسالته. كان محمد مثلا للإخلاص، والوقوف بجانب الحق والعدالة في كل ما يفعل، وكل ما يقول، وكل ما يفكر فيه . كان دائم التفكير، محبا للصمت لا يتكلم إلا إذا كان هناك ما يدعو إلى الكلام وإذا تكلم كان حكيماً في أقواله، سديدا في أرائه ، مخلصاً الإخلاص كله، يلقي النور على كل ما يعرض عليه من الأمور.
كان هناك كثيرون يجوبون الصحراء، من الرعاة الفقراء , لا يفكر فيهم أحد ،ولا ينتبه إليهم إنسان واستمروا هكذا منذ كانت الخليقة، لم تتغير حالهم . ولكن أرسل إليهم نبي من الأبطال فأخذوا كلمته، وصدقوا دعوته. وبعد أن كان العالم لا يعرف عنهم شيئاً صاروا معرفين للعالم . وبعد قرن واحد من هذه البعثة امتدت البلاد التي سيطر عليها العرب حتى وصلت إلى غرناطة، وإلى دلهى. وقد ظل العرب ينشرون النور في الأمكنة المظلمة،ويضربون المثل العالية في الشجاعة والإقدام والعظمة ، والوفاء، والمجد والنبل في أقطار كثيرة من بلاد العلام في سنوات طويلة".