العودة للصفحة الرئيسية

"كارين آرمسترونج" عالمة الأديان بريطانية المولد والجنسية أمريكية الإقامة والعملKaren Armstrong التى ولدت فى برمنجهام بانجلترا عام 1945م وقضت شقا من حياتها كراهبة كاثوليكية ثم تحولت إلى البحث العلمى فى تاريخ الأديان.. وهى تؤمن بأن الديانات التوحيدية الثلاث تحمل رسالة الحب والعدالة والسعادة للإنسان على الأرض ..

كارين آرمسترونج هى فى الواقع من أهم وأشهر من حاضروا وكتبوا عن الإسلام والغرب فى التاريخ المعاصر ولا تزال حتى اليوم تجوب البلاد والمدن فى الولايات الأمريكية وأوربا تلقى المحاضرات وتدلى بالأحاديث وتكتب المقالات دفاعا عن الإسلام ودحضا للاتهامات والمفاهيم المغلوطة عن الإسلام ونبيه.. أما عن أسلوبها الكتابى فهو أسلوب هادئ النبرة دافئ الروح موضوعى وموثق ..

وقد ألفت الكاتبة مجموعة من الكتب المهمة منها كتاب "موجز تاريخ الاسلام" وكتاب "تاريخ الإله..أربعة آلاف عام من البحث: اليهودية/ المسيحية/ الإسلام" الذى صدر عام 1993 وكتاب "القدس : مدينة واحدة وثلاثة أديان" الذى صدر عام 1996 وكتابها "معارك فى سبيل الإله" الذى صدر عام 2000م وهى تطرح فيه أفكارها وآراءها السياسية بكل شجاعة غير مبالية بأصوات الاحتجاج والاتهامات الموجهة إليها من بعض الجماعات المسيحية واليهودية والمنظمات الصهيونية فى أمريكا وخاصة إزاء آراءها فى الصراع العربى الاسرائيلى ..

على أن واحدا من كتبها قد أحدث صدى واسعا وراج رواجا كبيرا... إنه كتابها القيم "محمد...سيرة النبى " Muhammad... A Piography of the Prophet الذى صدر عام 1992م وهو أحدث الكتب التى أرخت للسيرة النبوية مؤخرا وأعيدت طباعته عدة مرات وبلغت مبيعاته فى الولايات المتحدة وحدها فى الشهر التالى لتفجيرات نيويورك فى 11 سبتمبر عام 2001م ربع مليون نسخة ...

وكتاب "محمد...سيرة النبى" هو دراسة قامت بها الكاتبة ونشرتها إبان موجة الكراهية والعداء للمسلمين والإسلام التى انفجرت فى الغرب بعد نشر كتاب سلمان رشدى "آيات شيطانية".. وقد اتخذت من ردود فعل المسلمين الغاضبة إزاءه ومن ترحيب الغرب المبالغ فيه بالكتاب الشيطانى وازدرائه لمشاعر المسلمين منطلقا لكتابها عن النبى محمد (ص).. فهى تثبت فيه بالأدلة القاطعة والبراهين الواضحة أن أسباب الحقد والكراهية والعنف الذى يسود الساحة الدولية ترجع إلى الهيمنة الغربية على الشعوب والأفراد.. وأن تلك الأحقاد ترجع أساسا إلى المفاهيم المغلوطة التى تروجها العناصر المغرضة التى تستهدف تعميق الفرقة وإحداث القطيعة بين الإسلام والغرب ..

وتأكد الكاتبة فى هذا الكتاب أن الإسلام هو دين السلم والتسامح وتنفى عن الرسول (ص) الاتهامات التى توجه إليه من قبل المتعصبين العنصريين فى الغرب أمثال الكاتب البريطانى سلمان رشدى والمستشرق الصهيونى برنارد لويس ومارتين كرامر وغيرهم... كما تبرز عبقرية النبى محمد (ص) فهى ترى رسول الله (ص ) رجلا تربى يتيما وعاش كسائر البشر إنسانا بسيطا متواضعا آمن برسالته وأخلص لها واتبع طريق الحق ثم غادر الحياة الدنيا فى هدوء بعد أن حقق إعجازا بشريا غير مسبوق.. ولم يمت فى ساحة القتال أو فى مقعد الملك وأبهة الأباطرة وظل بعد وفاته يعيش فى الوجدان الإنسانى بما جاء به من تعاليم سامية أرست قواعد السلام والوفاق والعدل الإنسانى وحققت الخير للبشرية ..

ونحن نعلق على ما سبق فنقول: كلا إن هـذا الإنجاز ليس بشريا وهـذا التأثير المعجز لمستحيل أن يحققه إنسان مهما كان وإنه لا مناص من الاعتراف بأن الله العلى القدير هو الذى حقق لرسوله تلك المعجزات ..

والكتاب أخى الكريم موجه بصفة رئيسية إلى القارئ الغربى وليس إلى القارئ العربى المسلم .. ولكن ترجع أهميته لنا فى أن رؤية الكاتبة فيه تبرهن على أن الكاتب لكى يُـقـْنع فعليه أولا أن يقـتـنع.. وهو لن يقـتـنع إلا إذا واتته فرصة الرؤية الموضوعية.. ولن تتأتى الرؤية الموضوعية إلا إذا خَـلصَ الإنسانُ نفسه من المسلمات والتحيزات والأفكار المسبقة وجـَردَ نفسه من رواسب التنشئة وعوائق اللاوعى الفردى والجماعى ..

ومع تحفظنا على بعض ماورد فى كتاب "محمد...سيرة النبى" فإننا يجب أن ننظر إليه على أنه كتابا أجنبيا يمثل أفكارا أجنبية منصفة إلى حد بعيد ومنهجا أجنبيا موجها إلى قارئ أجنبى... ومع ذلك نرى من الطريف أن نورد فقرات مقتبسة منه فما أحرانا أن نعرف ما يقوله الآخرون عن ديننا ورسولنا وكيف يقولونه أيضا.. تقول "كارين آرمسترونج" فى الفصل الثانى من كتابها :

"
كان لدى محمد مواهب روحانية وسياسية عظيمة -رغم الصعوبة العملية فى الجمع بين الجانبين معا- كما أنه كان مقتنعا أن على كل الأفراد المتدينين مسئولية إقامة مجتمع خيرعادل.. وبينما كان يتملك محمدا أحيانا الغضب فإنه كان أيضا رؤوفا شديد التأثر وعلى قدر هائل من التعاطف.. لم نقرأ أبدا أن المسيح قد ضحك، لكننا كثيرا ما نجد محمدا يبتسم ويداعب المقربين منه، نراه أيضا يلاعب الأطفال ويختلف مع زوجاته ويبكى بحرقة لوفاة أحد أصحابه، فنحن إن استطعنا النظر إلى محمد كما ننظر إلى الشخصيات التاريخية العظيمة الأخرى فمن المؤكد أننا سنراه أحد أعظم العباقرة الذين عرفهم التاريخ.. فلأن يأتى برائعة أدبية ويؤسس ديانة عظمى وقوة عالمية جديدة فتلك إنجازات غير عادية .. ولكى نوفى عبقريته حقها فإن علينا دراسة المجتمع الذى ولد فيه والقوى التى صارعها .."

وفى الكتاب الكثير من تلك المقارنات المنصفة بين محمد (ص) وعيسى عليه السلام بل وأحيانا بين الإسلام من جهة والمسيحية واليهودية من جهة أخرى..
وتقول الكاتبة فى الفصل الثانى من كتابها تحت عنوان "محمد رجل الله ":
"
كان محمد يتمتع بموهبة سياسية رفيعة القدر إذ تمكن من تغيير أحوال أمته تغييرا شاملا، وأنقذهم من العنف غير المجدى ومن التحلل، ومنحهم هوية جديدة يزهون بها، وبهذا أصبحوا على استعداد لتأسيس حضارتهم المتفردة، ولقد أطلقت تعاليم محمد مخزون قوة العرب لدرجة أنهم وفى خلال مائة عام امتدت إمبراطوريتهم من جبل طارق إلى الهيمالايا .

وعليه فإن كان هذا النصر السياسى هو الإنجاز الوحيد لمحمد فمن حقه علينا أن يحوز إعجابنا، لكن نجاح محمد اعتمد على الرؤية الدينية التى نقلها للعرب، والتى اعتنقتها بدورها الرعية من شعوب الإمبراطورية وذلك لأنها لبت حاجة روحانية لديهم .

غير أن محمدا والمسلمين الأوائل لم يحققوا انتصاراتهم بسهولة كما يحلو للبعض أن يتخيل، ولكنهم اشتبكوا فى معارك شرسة يائسة، ولولا أن الاعتبار الأول للنبى ورفاقه المقربين كان للدين ما كتب لهم البقاء .
وخلال تلك السنوات الخطرة كان محمد مؤمنا بالوحى المباشر الآتى من الله، لكنه كان عليه أيضا أن يوظف كل ملكاته الطبيعية، أما المسلمون فقد كانوا يدركون القدرات غير العادية لمحمد ويعون أيضا أنه قد غير مجرى التاريخ "

ثم تنتقل الكاتبة للتعليق على منهج المؤرخين المسلمين فى كتابة سيرة رسول الله (ص ) مقارنة بمنهج المؤرخين الغربيين فى تناولهم لسيرة المسيح (عليه السلام) وتاريخ المسيحية فنجد رأيها منصفا غاية الإنصاف، تقول :

"
هؤلاء المؤرخون (المسلمون) لم يعتمدوا ببساطة على أفكارهم الخاصة بل نجدهم يُضَمنونَ سردهم للأحداث وثائق مبكرة، ويتتبعون الروايات الشفاهية إلى مصادرها الأصلية، ورغم تبجيلهم لمحمد فإن كتاباتهم عنه ليست سيرا من سير القديسين غير النقدية .

فنجد ابن سعد وابن اسحاق يوردان أحداثا غير مداهنة للرسول، وخاصة أنهم قد سجلوا كل ما قالته عائشة التى كانت تمتاز بالصراحة والجرأة والأمانة، ومن تلك السيرة والتى تتميز بثقـتها فى طبيعة الشخصية التى يؤرخ لها (تقصد شخصية النبى عليه الصلاة والسلام) بالقدر الذى لا يحتاج كاتبوها معها للإغراق فى عمليات لتبييضها، يخرج القارئ بصورة واقعية مفحمة عن ذلك الإنسان غير العادى .

ومن الطبيعى القول بأن هؤلاء المؤرخين لم يكتبوا بنفس الأسلوب الذى يتبعه المؤرخون الغربيون المحدثون الذين نراهم كثيرا ما يوردون أقصوصات يُضْـفـُون عليها طابع الإعجاز والتى يمكن لنا الآن تفسيرها تفسيرا مختلفا، لكن هؤلاء المؤرخين (المسلمين) نجدهم يعون طبيعة مادتهم المعقدة وأيضا يعون الطبيعة المراوغة للحقيقة .

ثم تقول : "إن السرد الإنجيلى يختلف تماما عن السير التى كتبها المؤرخون العرب، فقد عـُنى كتاب الأناجيل بالمغزى الدينى لحياة المسيح أكثر من عنايتهم بسرد الوقائع التاريخية، وتعبر تلك الكتابات غالبا عن احتياجات واهتمامات وعقائد الكنائس الأولى أكثر من تركيزها على سرد وقائع الأحداث الأصلية .

فمثلا يشير الدارسون المحدثون للعهد الجديد إلى أن السرد الإنجيلى لوقائع عذابات المسيح وموته مشوش تشويشا تاما، وأن تلك الوقائع قد تم تغييرها... أما أقوال المسيح فلم يسجل منها إلا أقل القليل "

وفى الفصل التاسع من كتابها وتحت عنوان "السلم المقدس " تتحدث الكاتبة عن المواجهة بين الإسلام والكفر فتقول :

"
يخطئ من يظن أن الإسلام يدعو إلى التصلب الكامل فى الرأى أو أنه يلهم أصحابه التعصب الأعمى، فالواقع أن القرآن نظرية دينية متكاملة للحرب والسلام، ولن يكون من العسير على معظم المسيحيين أن يتقبلوها .

إن ختام سورة الفتح تقدم رؤيا كريمة لمجتمع يتميز أساسا بالروح الدينية وهى الروح التى تتجلى فى الدينين السماويين السابقين وهما اليهودية والمسيحية :{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ....} "الفتح:29 "

وقد يعترض معترض قائلا إن هذه التقوى لها جانب عدوانى، وقد يكون الهدف منها فيما يبدو هو إغاظة الكفار، ولكن تقاليد أديان التوحيد التاريخية الثلاثة تشترك فى هذا التصلب فى الرأى وفى رفض أى حل وسط فيما يتعلق بأصول الدين، بل إن المسيح المسالم نفسه قد قال : [إنه لم يأت بالسلام بل بالسيف ] "انجيل متى 10: 34-6 " ، وسوف نجد فى الأناجيل صورا أشد ضراوة وحمية بكثير عما نجده أحيانا فى صورة التقوى الشائعة فى الإسلام ".

ثم تقول عن الرسول (ص) فى نفس الفصل :
"
والواقع أن محمدا نفسه قدم نموذجا رفيعا للتآخى فى سلوكه الشخصى، فالرجل الذى كان أعداؤه يزدادون فرقا منه ووجلا كان يحظى بحب عميق بين أفراد الأمة، والتى كانت رغم الخطر الدائم الذى تواجهه تمثل مجتمعا ينعم بسعادة غامرة .

كان محمد يرفض أن يقيم فجوة من الاعتبارات الشكلية أو الرسمية بينه وبين غيره من المسلمين، وكان يكره أن يخاطبه أحد بألقاب التشريف الطنانة، وكثيرا ما كان يشاهد وهو جالس على سجيته ودون تكلف على الأرض فى المسجد، وكثيرا ما كان يختار أن يجالس أفقر أفراد المجتمع .

وكان يحظى بحب الأطفال بصفة خاصة، فكان دائما ما يحملهم بين يديه ويعانقهم ويقبلهم، وعندما كان يخرج فى إحدى الغزوات كان من عادة الأطفال أن يخرجوا لاستقباله عند عودة قوة الغزو، فكانوا يسيرون أمامه فى موكب النصر حتى يصل إلى الواحة، وكان إذا سمع طفلا يبكى فى المسجد أثناء صلاة الجمعة كثيرا ما يُـنـْْهى الصلاة قبل الموعد المفترض انتهاءها فيه لأنه لم يكن يطيق أن يتصور الحزن الذى تكابده أم الطفل، وإذا كانت القوانين التى جاء بها القرآن تبدو بالغة الصرامة لنا اليوم فقد كان المعروف عن النبى نفسه أنه رحيم لين الجانب ".

تقول "كارين آرمسترونج" فى كتابها "محمد...سيرة النبى ":

"
لقد دأبنا فى الغرب على مر القرون أن نتصور محمدا فى صورة الرجل الجهم والمحارب القاسى والسياسى البارد، ولكنه كان -على العكس من ذلك- رجلا يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر، فكان على سبيل المثال مُحبا للحيوان، إذا رأى قطة نائمة على بردته تركها وكره أن يُـقـلقها، وقد قيل إن أحد معايير تقدم المجتمع هو موقفه من الحيوان، وجميع الأديان تحث الناس على حب العالم الطبيعى واحترامه، وكان محمد يحاول تعليم المسلمين هذا السلوك ،كان العرب فى الجاهلية يعاملون الحيوان معاملة بالغة القسوة، فكانوا مثلا يقطعون قطعا من لحمها ويأكلونها وهى ما تزال حية، ويضعون قلائد مؤلمة حول أعناق الإبل، وقد حظر محمد وصم الحيوانات وصما يتسبب فى إيلامها، وحظر تنظيم مسابقات اقتتال الحيوان، وجاء فى الأثر أنه قال إن رجلا سقى كلبا يعانى من العطش فدخل الجنة، وإن امرأة حبست قطتها فماتت جوعا فدخلت فيها النار .

وهذه الأحاديث التى وصلت إلينا تدل على مدى الأهمية التى اكتسبتها تلك القيم فى العالم الإسلامى ومدى السرعة التى تقدم بها المجتمع نحو رؤية تتميز بمزيد من التراحم الإنسانى والتعاطف والشفقة.
وتقول الكاتبة فى الفصل العاشر والأخير وعنوانه "وفاة الرسول" ):

"
لقد كان الإسلام دائما دينا واقعيا وعمليا يرى أن الذكاء الإنسانى والإيحاء الإلهى يعملان جنبا إلى جنب فى توافق، وفى عام 632م بدا وكأن إرادة الله على وشك التحقق فى بلاد العرب، وخلافا لأنبياء كثيرين سابقين فإن محمدا لم يأت فقط برؤية أمل جديدة للأفراد من الرجال والنساء لكنه أيضا اضطلع بمهمة خلاص المجتمع الإنسانى وإقامة مجتمع عادل يُمـَكن البشر من الرجال والنساء من تحقيق إمكاناتهم الفعلية، وأصبح للانتصار السياسى منزلة تشابه منزلة القربان المقدس عند المسيحيين فقد كان آية للحضور الإلهى غير المرئى وسطهم .
وهكذا فقد كان على النشاطات السياسية أن تستقر كمسئولية مقدسة، وأصبح النجاح اللاحق للإمبراطورية الإسلامية آية على أنه بالإمكان خلاص البشرية جمعاء. وبدلا من أن يتجول بطريقة لا دنيوية بين تلال الجليل مبشرا وشافيا كما فعل المسيح فى تصوير الكتاب المقدس له، كان على محمد أن يشتبك فى جهد سياسى شاق لإصلاح المجتمع، كما كان على تابعيه أن يتعهدوا بمواصلة النضال .
وبدلا من تكريس الجميع جهودهم لإعادة بناء حياتهم الشخصية الخاصة فى سياق السلم الرومانى القائم كما فعل المسيحيون الأوائل، اضطلع محمد وصحابته بمهمة تجديد مجتمعهم الأمر الذى بدونه لم يكن ليتحقق أى تقدم أخلاقى أو روحى ..

لقد أنجز محمد إنجازا فذا، فلم يستند فقط إلى الوحى الذى أنزله الله عليه، بل إنه طبق المبدأ الذى جاء به القرآن وهو الأخذ بالأسباب، فاستخدم جميع موارده الطبيعية وعبقريته الشخصية الفائقة حتى تمكن من الظفر.. ولكنه كان فى عام 631م قد أصبح شيخا وبدأت صحته تتدهور، ترى هل يكتب للأمة البقاء بعد رحيله؟ ".

ثم تقول الكاتبة :
وبعد وفاة محمد كان النجاح المستمر للمشروع الإسلامى مبررا للجهد السياسى، وغدا برهانا على الاعتقاد فى أن إعادة تنظيم المجتمع وفقا لمشيئة الله تؤدى إلى سيادته، فما لبثت الجيوش العربية أن أسست إمبراطورية امتدت من جبال الهملايا حتى جبال البرانس .

وبعد حوالى مائة عام من وفاة الرسول بدأ الخلفاء فى تشجيع اعتناق الآخرين للإسلام، وبدءوا يدخلونه أفواجا، مما يبرهن على أن القرآن أجاب احتياجات القوم الدينية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما برهن أيضا على أن الإسلام أمكنه استيعاب حكمة الحضارات القديمة الأخرى، وسرعان ما أقام إرثه الحضارى المتميز ..

وهكذا يعتبر محمد على المستوى الرمزى الإنسان الكامل أو النموذج الإنسانى الأمثل وصورة التلقى Receptivity الكامل لله، ومن هنا تأتى الأهمية التخيلية للاعتقاد فى أمية محمد لأنها تبين انفتاحه الكامل على الكلمة الإلهية، وكذلك ينظر لمرحلة الإسراء على أنها المثال الكامل للفناء فى الله الذى يتحدث عنه المتصوفون .

ومثل المسيحيين الذين طوروا ممارسة محاكاة المسيح، يسعى المسلمون أيضا إلى محاكاة الرسول فى حياتهم اليومية من أجل أن يقتربوا بقدر الإمكان من الكمال، وهذا يقربهم قدر الاستطاعة من الله. وكما يتوقع فقد كانت تلك المحاكاة دائما على مستوى عملى ملموس أكثر من محاكاة المسيحيين لعيسى .
وهكذا بدأ العلماء المسلمون فى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين بحث وجمع أحاديث محمد (السنن القولية والفعلية) وقاموا بالتنقل فى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية ليكتشفوا أكبر قدر مستطاع من الروايات الصادقة عن أشياء قالها أو فعلها فى مناسبات معينة، وتـُـكـَون الأحاديث مع القرآن أصول الشريعة الإسلامية ..".

ثم تختتم الكاتبة كتابها بهذه الكلمات :
"هذا وإن كان المسلمون اليوم بحاجة إلى فهم الموروثات والمؤسسات الغربية بدقة أكثر، فإننا فى الغرب بحاجة أن نخلص أنفسنا من بعض أحقادنا القديمة، ولعل شخص محمد يكون مناسبا للبدء، فقد كان رجلا متدفق المشاعر ذا شخصية قوية، وقد أتى ببعض الأفعال التى نجد صعوبة فى تقبلها، لأنه كان ذا عبقرية تستعصى على الإدارك، وقد أسس دينا وموروثا حضاريا لم يكن السيف دعامته كما تزعم الأسطورة الغربية، ودينا اسمه الإسلام ذلك اللفظ ذو الدلالة على السلام والوفاق ."..


صلاة وسلاما عليك يا سيدى يا رسول الله ...