إتيين دينيه:
ولد "ألفونس إتيين دينيه " في باريس 1861، عاش – رحمه الله – فنانًا بطبعه: كان مرهف الحس، رقيق الشعور، جياش العاطفة.
كان صاحب طبيعة متدينة ،كان كثير التفكير، جم التأمل، يسرح بخياله في ملكوت السماوات والأرض، يريد أن يخترق حجبه، ويكشف عن مساتيره. ويصل ....إلى الله.
كان فنانًا يتملكه شعور ديني، وكان متدينا، يغمره ويسيطر عليه شعور فني، وامتزج فيه الفن بالدين، فكان مثالا واضحا للإنسان الملهم.
نشأ من أبوين مسيحيين، وتلقن – بطبيعة الحال- العقائد المسيحية نظريًا، ومارسها عمليًا، وذهب به أبوه – ككل مسيحي – إلى التعميد، وإلى الكنيسة، فشب وترعرع على عقيدة التثليث والصلب والفداء والغفران. وعلى مر الزمن، أخذت تستبين فيه طبيعته الفنية، وأخذ يستولى عليه شعور بالقلق والحيرة من الناحية الدينية.
وكان "دينيه" يفكر في مصيره، ويعمل جاهدا ليبلغ الذروة في الفن، ويعمل جاهدا لإزالة الظلمة المتكاثفة في دائرة اللانهاية.
ولكن ما العلاج لطبيعته الدينية القلقة؟ ليس لذلك من علاج سوى البحث والتأمل وإطالة التفكير في الكون، في النصوص المقدسة، وفي العقائد التي يدين بها الوسط المباشر، والبيئة المحيطة... وفكر "دينيه" في المسيحية، وفي الكنيسة، وفي البابا المعصوم، وفي عقيدة التثليث والصلب والفداء والغفران.
المسيح ابن الله! وقد صلب ليطهر بني البشر من اللعنة التي حلت بهم بسبب خطيئة آدم..
إنه صلب ليفتدي البشر، ثم هو ابن الله، وهو الله... وهو بشر... وهو إله
ويدور رأس دينيه، فلا يكاد يرى بارقة من أمل في أن يهتدي إلى الحق في كل ذلك.. وهل في ذلك من حق؟ وهل في الظلمة من نور..
ومع ذلك فلم ييأس، بل أعاد قراءة الأناجيل من جديد محاولا جهده أن يراها تتسم بسمة الحق، فيؤمن بابن الله. وبالكاثوليكية، ولكنه رأى فيها ما يتنافى مع الصورة المثلى للإنسان الكامل فضلا عن الصورة التي تريد المسيحية أن توحي بها:
فمن أقوال المسيح التي فيها حطة واحتقار للعذراء ما صدر منه في عرس "قانا" : "وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك، ودعا أيضًا يسوع تلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، قال يسوع: مالي ومالك يا امرأة.
ومن أقواله التي تحمل في طياتها اللعنة على شجرة تين لم تحمل ثمرها، لأنه لم يكن موسم تين: "فنظر شجرة تين من بعيد، عليها ورق، وجاء لعله يجد فيها شيئًا، فلما جاء إليها لم يجد شيئًا إلا ورقًا، لأنه لم يكن وقت التين فتعجب يسوع وقال لها:لا يأكل أحد منك ثمرًا بعد إلى الأبد، وكان تلاميذه يسمعون".
كذلك من أقواله الدالة على كره الغريب:
"... وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة:
ارحمني يا سيد يابن داود: ابنتي مجنونة جدًا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال:
لم أرسل إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.
ومن أقواله التي توجب كراهية الأقرباء:
"إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه، وامرأته وأولاده، وإخوته، وأخواته، حتى نفسه أيضًا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا".
ومن أقواله التي فيها اعتراف بالجهل:
"وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن إلى الأب.
هذه النصوص تبعث فى النفس الشك فى صحة الأناجيل، وفي قيمتها من الناحية التاريخية.
وكانت نتيجة بحثه: أنه لا شك أن الله قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه. ولا شك أيضا أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر، ولم يبق له أثر، أو أنه باد، أو أنه قد أبيد.
ولهذا قد جعلوا مكانه"توليفات" أربعًا، مشكوكا في صحتها، وفي نسبتها
كما أنها مكتوبة باللغة اليونانية، وهي لغة لا تتفق طبيعتها مع لغة عيسى الأصلية التي هى لغة سامية، لذلك كان صلة السماء بهذه الأناجيل اليونانية أضعف بكثير من صلتها بتوارة اليهود. ورأى – في النهاية- في وضوح:
" إن الديانة الكاثوليكية لا تتحمل البحث والمناقشة. وقد أظهرت الأدلة العديدة – سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية، أم علمية، أم لغوية، أم سيكولوجية، أم دينية- أن الكاثوليكية، ملأى بالأغلاط الواضحة".
وانتهى به المطاف، بعد بحث وجدل ومناظرات وتأملات، إلى رفض المسيحية، وبلغت حيرته حينئذ أشدها، ولكن اليأس لم يتطرق إلى نفسه قط، وإذا لم يجد الهداية في المسيحية فليس معنى ذلك أنه لن يجدها مطلقًا.
إن الحقيقة عزيزة المنال، ولكنها موجودة، والسبيل إليها: البحث ورأى "دينيه" أن يتجه إلى العقل، يستمد منه الهداية إلى الطريق المستقيم، ولكنه انتهى إلى أن العقل عاجز في ميدان ما وراء الطبيعة، وفي الواقع يسعى كثير من ذوي العقول المستنيرة- بعد أن أفاقوا من غفلتهم،وبعد أن رأوا إخفاق مذاهب استقلال العقل بالمعرفة – لتعرف طريق الهداية .
أخفقت المسيحية في إرضاء ضميره الديني، وأخفق العقل في قيادته إلى النور، إلام يتجه إذن؟
وتلفت حوله ونظر: ماذا فعل أمثاله ممن شكوا في المسيحية وشكوا في العقل؟
فرأى: أن نفرًا من النصارى في مختلف الأقطار الأوروبية دانوا بالإسلام في الأعوام الأخيرة... ويكثر عددهم على مر الأيام، وفي لندن وليفربول جماعات إسلامية ذات شأن حقيقي، منهم فريق من أعيان الإنجليز.
ورأى: أن الذين يعتنقون الإسلام في وقتنا هذا من المسيحيين وغيرهم، وإنما هم من الخاصة سواء كانوا من الهيئات الاجتماعية الأوروبية، أو الأمريكية، كما أن إخلاصهم في ذلك لاشك فيه، لأنهم أبعد ما يكونون عن الأغراض المادية.
وتبين له: أنه يوجد فى جميع أنحاء أوروبا وأمريكا من اعتنقوا الإسلام، وإذا كان هذا الأمر لا يزال قليل الأهمية إذا نظرنا إلى قلة عدد المعتنقين- وإن كان عددهم لابأس به- فإنه ذو أهمية كبرى، نظرًا لمركز هؤلاء المعتنقين الذين ينتمون إلى الطبقات الراقية المتعلمة، ونذكر منهم على سبيل المثال: "اللورد هيدلي" الإنجليزي، وصديقنا المأسوف عليه المرحوم "كرستيان شرفيس" أحد تلاميذ "أوغست كونت" وأديبا من أدباء فرنسا المعدودين، وفيلسوفا من فلاسفتها المشهورين".
ومما لا ريب فيه: أن هناك مفكرين منصفين- لا غربيين فحسب- بل عالميين أيضا، درسوا الإسلام دراسة عميقة، فأحبه البعض وناصره، وآمن به البعض الآخر، وأعلن إسلامه، وصدق فيه.
ويقول أحدهم
"أنني أعتقد أن هناك آلافا من الرجال والنساء أيضا، مسلمون قلبا، ولكن خوف الانتقاد، والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم".
كيف ولماذا أسلم دينيه؟
وما المميزات الخصائص التي جعلته يمنح الإسلام من الثقة ما لم يمنحه للمسيحية؟
لقد كانت الشكوك كثيرة تدور في نفسه، عندما وقعت في يده نسخة من مجلة إنجليزية، فإذا به يجد جوابا، عن أسئلته، إذ قرأ فيها:
لماذا صار بعض الإنجليز وغيرهم من الأوربيين مسلمين؟
ذلك لأنهم كانوا يتلمسون عقيدة سهلة معقولة، عملية في جوهرها- لأننا معاشر الإنجليز نتبجح بأننا أكثر أهل الأرض تشبثا بالعمل – عقيدة تكون ملائمة لأحوال جميع الشعوب وعاداتهم وأعمالهم، عقيدة دينية صحيحة يقف بها المخلوق أمام الخالق بدون أن يكون بينهما وسيط.
أحق هذا؟
إن دينيه لا يأخذ الأشياء قضية مسلمة، فأخذ يزن الأمور.. وأخذ يبحث أحق أن الإسلام "هو العقيدة الدينية الصحيحة"؟
صلاحية العقيدة الإسلامية لكل زمان ومكان:
وكما أن الإسلام قد صلح – منذ نشأته – لجميع الشعوب والأجناس فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات، وأن تعاليم المعتزلة، ذات القرابة المستترة والصلة الخفية، بتعاليم الصوفية، تجد مكانا رحبا، وقبولا حسنا، ورضاء سهلا، سواء عند العالم الأوروبي، أو عند الزنجي الأفريقي، وهو الذي يصعب على المرء تخليصه من معتقداته الخرافية، ومن معبوداته وأصنامه..
فإنه والحق يقال يلائم جميع ميول معتنقيه على اختلاف مشاربهم، فهو ببساطته المتناهية – كما يذهب إليه المعتزلة- وباشتماله على روح التصوف- كما يذهب إليه الصوفية – يهدي علماء أوربا وآسيا إلى الطريق المستقيم، ويجدون فيه تعزية وسلوى من غير أن يحول بينهم وبين حريتهم التامة في آرائهم وأفكارهم.
ويرقى بروح ذلك التاجر الإنجليزي، رجل العمل الذي يعتبر الوقت من ذهب، كما يرقى بروح الفيلسوف المتدين، ويسمو بنفس الغربي الشغوف بالفن والشعر، بل هو يسحر لب الطبيب العصري بما قرره من الوضوء المتكرر كل يوم، وبما في الصلاة من حركات منتظمة تفيد الجسم والروح معًا، وفي وسع حر الفكر- وهو ليس ملحدًا حتمًا- أن يعتبر الوحي الإسلامي عملا من أعمال تلك القوة الخفية التي نسميها "الإلهام" وأن يعتقد به من غير أية صعوبة بما أنه لا يحتوي على أسرار خفية لا يسيغها العقل.
ويردد الفكرة نفسها في كتابه عن حياة سيدنا محمد – لقد رسخت هذه الفكرة في نفسه من أول وهلة، واستمرت معه إلى نهاية حياته:
لقد وقر في ذهنه، أن الإسلام دين عام خالد.
ولكنه لأجل أن يتبين – في وضوح – الفروق الجوهرية بين الإسلام والمسيحية، ولأجل أن يصل إلى الحد الأسمى، فيما يتعلق بالإخلاص لضميره الديني، أخذ يوازن موازنة قيمة بين الإسلام والمسيحية فرأى:
(1) فما يتعلق بالإله:
"الدين الإسلامي لم يتخذ فيه الإله شكلا بشريًا، أو ما إلى ذلك من الأشكال.
إن "يا هو"، الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي فهم يجعلونه في مظاهر متهالكة، وكذلك تراه في متحف "الفاتيكان" وفي نسخ الأناجيل المصورة القديمة.
أما "الله في دين الإسلام الذي حدث عنه القرآن فلم يجرؤ مصور أو نحات أن تجرى به ريشته، أو ينحته إزميله، ذلك لأن الله لم يخلق الخلق على صورته، سبحانه وتعالى، فلم تكن له صورة ولا حدود محصورة، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يكن له كفوا أحد".
(ب) فيما يتعلق بالصلاة والنظافة :
إن الحركات والإشارات في الصلاة الإسلامية هى ذات بساطة ولطافة ونبالة، لم يسبق لها مثيل من نوعها في صلاة غيرها.
مع أنها لا تدعو الوجوه بالتظاهر والتكلف، ولا العيون بالشخوص إلى السماء، واستنزال الدموع التي تذكرنا بالدموع الجليسرينية التي يصطنعها ممثلو "السينما" في عصرنا الحاضر. حقًا، إن الصورة الإسلامية خالية من تلك الأمور الشائنة.
والأقوال والحركات التي في الصلاة الإسلامية هى ذات دلالة على الرزانة والهدوء، والاطمئنان، وهى خالية من مبالغات الورع وتكلفات الخضوع،والتظاهر بذلك مما هو غريب فى العبادات، لأن الله سبحانه وتعالى عليم بما في الصدور، وهو الغني الحميد.
ثم إن من الأمور الغريبة تخصيص وجود الإله في السماء عند دعوته، وهذه الحال تحمل في طياتها إلحادًا، إذ تجعل السماء منفى الإله، وتنفي بذلك عنه صفة الوجود في كل مكان. وحركات الصلاة الإسلامية، فوق تعبيرها التام عما تحمل نفوس المؤمنين من العاطفة النبيلة نحو المولى الكريم، تقوم للجسم بأعظم مزايا الحركات الرياضية، فهى مفروضة الأداء خمس مرات في اليوم الواحد، وكم من شيخ كبير، وبدين سمين، يستطيع كلاهما السجود والركوع والوقوف دون كبير عناء ولا مشقة، مما لا يستطيعه المسيحي في مثل هذه السن، أو في مثل هذا الحال، ما لم يكن قد روض على ذلك من قبل، أضف إلى ذلك حكمة الوضوء الذي يسبق كل صلاة، ففيها للبدن انتعاش وصحة ونظافة، والنظافة من الإيمان.
في التسامح:
يقوم القس "ميشون" في كتابه "سياحة دينية في الشرق":
"إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعالمة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم".
في العلم:
رفع النبي محمد قدر العلم إلى أعظم الدرجات وأعلى المراتب وجعله من أول واجبات المسلم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : "اطلبوا العلم ولو بالصين".
و: "يوزن يوم القيامة مداد العلماء، بدم الشهداء". و"فضل العلم خير من فضل العبادة".
في الفروسية:
وينظر المسيحيون إلى "سان لويس" وكأنه النموذج الأعلى للثمرة المسيحية الناضجة. غير أن الوثائق التاريخية تثبت في وضوح وسهولة – أن خصمه صلاح الدين الأيوبي كان أرفع منه قدرا في الحضارة وفي الشجاعة، وفي معاملة الخصوم.
والفروسية ونبالة قصدها، لم يكن يعرفها الأقدمون من اليونان، والرومان، ولكنها كانت معروفة عند العرب أيام جاهليتهم ثم هذبها الإسلام وطهرها تطهيرًا.
وعلى أثره دخلت أوروبا ووصلت إلينا نحن الغربيين، ولم يبق أحد اليوم ينكر نسبتها إلى العرب.
وقد ذكر العالم المسيحي المتدين "بارتلمي سان هيلار" في سياق حديثه عن القرآن: " إن العرب هم الذين يرجع إليهم الفضل على سادات أوروبا وفرسانها في القرون الوسطى، في تعديل عاداتهم الخشنة وتلطيفها ثم تعليمهم رقة العاطفة، وتهذيب نفوسهم، والرفعة بها إلى حيث الإنسانية والنبالة، وكل ذلك دون أن يصيبهم ضعف يفقد من فروسيتهم وشجاعتهم شيئًا".
في العبقريات العلمية:
ثم إنهم يفخرون بالعالم "باستور" الفرنسي، ويجعلونه درة في تاج الحضارات الحديثة، ولكن فاتهم أن "جابر" و "الرازي" ، لا يقلان عنه في مرتبة العلماء والمفكرين، فهما المؤسسان الحقيقيان لعلم "الكيمياء" بفضل ما كشفاه من طرق التقطير، ومن الكحول، ومن "حمض النتريك" و "حمض الكبريتيك".
إسلامه:
واستمر صاحبنا في الموازنة والمقارنة، والتأمل والتفكير، وأطال النقاش، ثم أراد الله له أن يسلم.
وأسلم (إتيين دينيه)، واختار اسم "ناصر الدين". وإن هذا الاختيار لهو الذي يحدد اتجاهه بعد ذلك خير تحديد.. ناصر الدين: إنه حقًا خصص حياته لنصرة الدين الإسلامي، ورأى أن نصرته إنما تكون عن طريقين:
(أ) نصرته سياسيًا.
(ب) نصرته علميًا.
فإن عنصرين من عناصر الشر يتألبان على الإسلام، ويهاجمانه في عرينه، وهما:
رجال السياسة الاستعماريون، ورجال الدين المتعصبون.
ولابد- لتكون نصرة الإسلام كاملة – من أن يتجه الدفاع نحو الهدفين، وتطلع ناصر الدين نحو الغاية التي يريد أن يسعى إليها، فهاله الأمر، وكتب معبرًا عن الواقع يقول:"إن أهل السوء من أهل الكتاب لا ينفكون يهاجموننا نحن المسلمين بالأباطيل، ويحاربوننا بالمفتريات... وإذا نحن شئنا أن نحصي أكاذيبهم علينا.
الانتصار للإسلام سياسيًا:
أما من جهة السياسة، فإن ناصر الدين ليس من الساسة المحترفين، ولذلك كانت مهمته في هذه الناحية التحدث إلى كل من يجد فيه روح الإنصاف من الغربيين، ذوي النفوذ، والعمل على إذاعة كل ما يمكنه إذاعته من آراء المنصفين منهم، وتبنى قضية الشرق المظلوم.
ومن ناحية أخرى، أخذ ينشر ما يصحح فكرة الأوربيين عن الشعوب الإسلامية، ويبين أنها شعوب بعيدة كل البعد عن الهمجية والتوحش، وأنها تمتاز بالوفاء، وعرفان الجميل والكرم والشجاعة والفضائل المحمودة، ويبين أن ماضيها المجيد خير نبراس يرسل أشعته على الفكرة الخاطئة الموجودة عند الغربيين،فيزيل ماغشي عليها من ظلمة.
الانتصار للإسلام علميًا:
ومع ذلك فإن ميدانه الفسيح إنما كان الدفاع عن الإسلام، باعتباره دينا سماويا، لقد استمات في الدفاع عن عقيدته التي يؤمن بها في يقين حار مطمئن.
ومما زاد من قيمة دفاعه هذه الموازنات الكثيرة الدقيقة بين الإسلام والمسيحية في كثير من الأصول، وفي كثير من الفروع.
لقد درس الإسلام بعمق، ودرس المسيحية بعمق، ورأى أن هجوم رجال الكنيسة لا يفتر، وتزييفهم بالباطل لكل ميزة للإسلام لا ينقطع. فدافع واشتد في دفاعه، وهاجم – وكان لابد من الهجوم – واشتد في هجومه، وتوالت ضرباته للمسيحية ممثلة في رجال الكنيسة.. ولكنه كان يعلن دائما- كما هو الشأن في كل مسلم – احترامه للمسيح: لأنه رسول الله، واحترامه للمسيحية الصحيحة التي يتحدث عنه القرآن، لا تلك التي ابتدعها رجال من بني البشر.
كان يعلن دائما أن دين الله واحد، وأن الإسلام أتى مصدقا لما سبقه مصححا لما ناله من تحريف، مهيمنا عليه، وقد وعد الله بحفظ كتابه المقدس:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
فالقرآن في العصر الحاضر، هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم ينله- ولن يناله- تحريف أو تبديل.
وفاته
استمر ناصر الدين طيلة حياته يناضل عن الإسلام كدين، ويناضل عن المسلمين كشعوب، ويضح روحه، وشعوره، ووجدانه في هذا الدفاع المجيد حتى ليكاد الإخلاص يتجسد خلال ما يسطر من عبارات. وفي ديسمبر سنة 1929، توفى بباريس، وصلى عليه بمسجدها الكبير بحضور كبار الشخصيات الإسلامية وغيرها، وزير المعارف بالنيابة عن الحكومة الفرنسية، ثم نقل جثمانه إلى بلاد الجزائر حيث دفن في المقبرة التي بناها لنفسه ببلدة "بوسعادة" تنفيذًا لوصيته.
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.