جوانب إنسانية مرتبطة بصلح الحديبية:
كَثُر حنين المسلمين إلى مكة بعد أن مرَّت بهم ست سنوات وهم بعيدون عن وطنهم وعن الكعبة المشرفة.
ورأى الرسول فى منامه أنَّ المسلمين سيدخلون المسجد الحرام آمنين كما جاء فى سورة الفتح، ولكن لم يُحدَّد موعد لهذا الدخول بيد أن المسلمين عندما سمعوا هذا الخبر سرعان ما ربطوه بأقرب وقت مناسب لأداء الحج، وبدأ الاستعداد لهذه الرحلة التي كانوا يتوقون لها من قبل دون أن يتحدثوا عنها، أما وقد تحدث عنها الرسول بناء على هذه الرؤيا، فقد فتح الباب لأمل كان دفينا فى نفوسهم.
ولكن الرسول r كان حريصا كل الحرص على أن يدخل المسلمون مكة بدون حرب وبدون صراع، ومن هنا فإننا نجد الرسول يتخذ عدة وسائل لتنتفى الشبهة عند قريش من أن المسلمين جاءوا مهاجمين، وأنهم يريدون أن يدخلوا مكة بالقوة.
ماذا فعل الرسول ليؤكد لقريش أن الهدف هو العمرة وليس الحرب؟
أولا: خرج المسلمون محرمين، والإحرام دليل السلم والعمرة.
ثانيا: لم يأخذ المسلمون معهم من السلاح إلا السيوف فى جرابها لمواجهة أي عدوان محتمل فى الطريق.
ثالثا: دعا الرسول بعض العرب المشركين ليصحبوا المسلمين فى هذه الرحلة دليلا على أنها رحلة عمرة.
رابعا: ساق الرسول الهدى دليلا على ذلك.
ولكن كل هذه الأشياء لم تُقنِع قريشا، وظنَّت أو أكَّد لها خيالها أن محمداً جاء يقتحم عليهم بلادهم مما يجعل العرب يسخرون منهم، وأعدت قريش نفسها لمواجهة عسكرية.
وحط الرسول رحاله عند الحديبية التي يسميها القرآن الكريم (بطن مكة) ودخلت الأشهر الحرم وتأزَّم الأمر.
وأعلن الرسول أن الهدف هو العمرة ولم تصدِّق قريش، وبدأت تتخذ الوسائل التي تتعرف بها عن القصد الحقيقي للمسلمين، فبدأت ترسل مندوبيها ليتأكدوا من حقيقة الأمر، وخطر لقريش أن المسلمين أعداء الأصنام ولو دخلوا مكة لأحدثوا تدميرا لبعض الأصنام وهذا يُفقِد مكة مكانتها فى نظرهم، فلابد من المقاومة إذا كان المسلمون جاءوا ليدخلوا بالقوة، وأعدوا حملة بقيادة خالد بن الوليد لمواجهة المسلمين عند اللزوم.
وإذا كان هذا هو موقف قريش، وإذا كانت نزعة الحرب مسيطرة عليهم، فإن موقف المسلمين كان مسالما للغاية يُمثله قول الرسول r عندما وصل الحديبية: والذى نفسي بيده لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم، وتعظيم حرمات الله إلا أعطيتهم إياها وذلك هو قمة الإنسانية.
وبدأت البعوث بين الطرفين لتتأكد قريش من الباعث الحقيقي لقدوم المسلمين إلى مكة، وقبل إرسال البعوث والمندوبين طلبوا من بعض الفتيان القرشيين أن يتسللوا إلى المكان الذى يعسكر فيه المسلمون ليتسمعوا لأخبارهم، وعاد هؤلاء الفتيان ليؤكدوا أن ما شاهدوه يقرر أن المسلمين جاءوا للحج مسالمين، ولم تقنع قريش بذلك وأرسلت مبعوثها الأول وهو بديل بن ورقاء الخزاعي، وعاد هذا ليقول: إن محمدا لم يأت لقتال، وإنما جاء معتمرا، ولكن قريش اتهمت بديلا بالميل إلى محمد وللمسلمين لأنه من خزاعة المعروفة بولائها للمسلمين.
وأرسلت قريش بعده عروة بن مسعود الثقفي، وهو أحد زعماء ثقيف، ولكنه رجع يتحدث إلى قريش عن حب المسلمين للرسول واستعدادهم لفدائه بأغلى ما يملكون، وأنهم لن يتهاونوا فى حقهم، وما جاءوا إلا للعمرة، وذكر لهم عروة أنه رأى حاشية الملوك والأباطرة ولكنه لم ير إخلاص حاشية لسيدها كإخلاص أصحاب محمد لمحمد.
وأرسلت قريش "الحليس بن علقمة" سيد الأحابيش وما إن رآه المسلمون حتى أطلقوا الهدى دليلا على أن هدفهم هو العمرة لا الحرب, فعاد إلى قريش وقال لهم إنكم إن منعتم المسلمين كنتم تصدون عن بيت الله من جاءه مُعظِّماً لحرمته, ولن نوافقكم على هذا, وتأزمت الأمور بين قريش وبين الأحابيش.
والتقط الرسول الزمام فرأي أن يرسل من قبله رسولا, فعرض ذلك على عمر ولكن عمر قال إنه يخافهم على نفسه لكثرة ما عارضهم, وأوصى بأن يرسل عثمان.
وراح عثمان إلى مكة , وعرضت عليه قريش أن يطوف بالبيت فامتنع قائلا: والله ما كنت لأعتمر ورسول الله والمسلمون ممنوعون من دخول مكة.
وطال الحوار وامتد عدة أيام وشاع أن قريشا قتلت عثمان, وبايع المسلمون رسول الله على الموت وهى بيعة الرضوان التى وردت بالقرآن الكريم "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم, فأنزل السكينة عليــهم وأثابهم فتحا قريبا" (الفتح 18).
وسمعت قريش بذلك فلانت عريكتها وأرسلت سهيل بن عمر ليعقد باسمها عهداً مع المسلمين فيه صلح, على أن يعود المسلمون إلى المدينة بدون عمرة هذا العام, فذلك يُبقى هيبة قريش, وللمسلمين أن يفدُوا فى العام القادم وتـُخـلى قريش مكة لهم مدة ثلاثة أيام, وكان هذا أهم شروط الصلح, ومن هذه الشروط أن تكون هناك معاهده بين المسلمين وقريش مدتها عشر سنوات,وأن من يأتي لمحمد مسلماً بدون إذن وليه لا يقبله محمد, ولكن من ارتد وعاد إلى مكة فلأهل مكة قبوله.
وكانت النقطة المهمة عند قريش ألا يدخل المسلمون مكة هذا العام, وكان هناك شبه رفض من جموع المسلمين تجاه هذه النقطة ولكن الرسول بإنسانيه وبعد نظره قبل هذا الشرط حقنا للدماء ولأنه كان بمكة بعض المسلمين الذين يخفون إسلامهم ولو دخل المسلمون هذا العام فإنه من المحتمل أن يَقتل مسلمو المدينة بعض هؤلاء, وعن هذا تتحدث الآية الكريمة "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئونهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم" أى لولا هؤلاء لكان من الممكن أن نسلطكم على أهل مكة.
وكتب صلح الحديبية الذى برزت فيه جوانب إنسانيه متعددة يلاحظها المتأمل فى وقائع هذه الرحلة.
وأضيف أن الرؤيا التى رآها الرسول تقول: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله امنين" ولو دخل المسلمون مكة فى هذا العام بالحرب لما كان ذلك مطابقا للآية التى تقول آمنين.
بقى أن نقول إن فى نصوص الصلح وردت بعد نقاط لم يرض عنها المسلمون مثل رفض ذكر أن محمدا رسول الله ولكن الرسول وافق على أنا يقال محمد بن عبد الله.
وهذا وسواه كثير في هذا الصلح يبرز جوانب مهمة من انسانيه الرسول وحرصه على حقن الدماء والنظرة للمستقبل البعيد.