الرسول وأولاد حاتم الطائي:
كان عدى بن حاتم الطائى امرءاً شريفاً نصرانياً كما يقول ابن هشام وكان مَلِكاً على قومه وسمع بمحمد وقوته وخاف زحفه عليه, فأعد عدداً من النوق القوية, وأوصى بعض غلمانه أن يتيقظوا ويهرعوا إليه إذا رأوا رايات محمد مقبلة نحو مكانه.
وبعد فترة جاءه أحد غلمانه مسرعاً يقول إن رايات محمد فى الطريق إلينا, فأسرع عدىُّ وحمل أسرته وأولاده وأغلى متاعه واتجه إلى الشام ليكون فى حمى النصارى هناك, وكانت أخته سفانَّة بعيدة عن خيام أخيها عندما ظعن أخوها بنسائه وأولاده, فتركت فى منازل الحي ودخل المسلمون منازل طىء وألقو القبض على من بها ومنهم سفانَّة.
ووُضعت سفانَّة فى المكان الخاص بأسرى النساء غير بعيد من مسجد الرسول , فطلبت سفانَّة من حارس الأسرى أن يخبرها عن الطريق للحديث مع محمد, فقال الحارث: إن الرسول يمر بهذا الموضع فى طريقه للصلاة والحديث إليه ومقابلته حق لكل انسان, فلما مرَّ الرسول بالموقع اشرأبت له وقالت: يا محمد هلك الوالد,وغاب الرافد فامنن علىَّ منَّ الله عليك.
فقال الرسول لها: من رافدك يا فتاة؟
قالت سفانَّة: عدى بن حاتم.
فقال الــرسول: الفار من الله ورسوله, وتركها وواصل سيره.
وأدركت سفانَّة أنَّ أخاها لا يصلح أن تستعين باسمه فى هذه الأزمة, فدبرت أمراً, وفى لقاء تال قالت للرسول:يا محمد, هلك الوالد, وكان سيد قومه, كان يفك العانى, ويحمى الذمار, ويفرِّج عن المكروب, ويطعم الطعام, ويفشى السلام, ويقضى حاجة من سأله حاجة, أنا ابنة حاتم الطائى.
فقال الرسول: يا فتاة هذه صفات المؤمنين, ومن حقك أن نكرمك من أجل أبيك, والتفت إلى مرافقيه وقال: خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.
وخرجت سفانَّة من بيت الأسري وقال لها الرسول أنت حرة تعيشين فى بيتى أو فى أى بيت تختارين حتى تجدى ركباً مسافراً إلى قومك بالشام فتلحقى بأهلك.
وبعد فترة جائت تقول: يا محمد هنا رهت من قومى لى فيهم ثقه وبلاغ فأذن لى فى صحبتهم, فكساها الرسول وحملها على راحلة, وأعطاها نفقة مناسبة وودعها معززة مكرمة, فقالت له عبارات من الأدب الرفيع هى:
شكرتك يد افتقرت بعد غنى, ولا مَلَكَتكَ يد استغنت بعد فقر, وأصاب الله بمعروفك موضعه, ولا جعل لك إلى لئيم حاجة, وجعلك وسيلة لرد نعمة سلبت من كريم .
ووصلت سفانَّة فاستقبلها أخوها بترحاب وأسى قائلاً : مرحبا يا ابنة حاتم .
فقالت له متأثرة : اغرب عنى أيها القاطع رحمه,حملت أهلك وولدك, وتركت عورتك وبقية أبيك .فأجابها فى ألم :غفرانك ياأختاه فما صنعت ما صنعت إلا فى ساعة هول , ولكن قولى لى : ماذا رأيت فى هذا الرجل ؟ قالت : ما رأيت فيه إلا خيرا, وقصت عليه قصتها معه ثم قالت: أرى أن تلحق به سريعا , فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضيلة, وإن يكن مَلِكاً فلن تذل عنده فقال: هذا والله هو الرأى .
وشدَّ عدى رحاله إلى المدينة ودخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وتقدم من الرسول وسلَّم عليه , فردَّ الرسول السلام ثم سأله: من الرجل؟ فقال:
عدى بن حاتم فاحتفى به الرسول كعادته مع الوافدين إليه وبخاصه مع الرؤساء الذين يرجى إسلامهم وإسلام أتباعهم بعدهم, ولهذا نهض له الرسول وفرش عباءته له ,وأجلسه بجواره ثم بعد فترة أخذ بيده وصحبه إلى داره. وفى الطريق عرضت له إمرأه لها شكوى فوقف الرسول لها واستمع شكائها وقضى حاجتها, فقال عدى فى نفسه: ما هذا مَلِك فالملوك لا يفعلون هذا.
ودخل عدي بيت الرسول فرأى بيتاً بسيطاً ليس به فراش ولا أثاث إلا حشية من ليف قدمها الرسول لعدى ليجلس عليها فقال عدى فى نفسه: إن محمداً ليس ملكاً فى مظهره ومسكنه ومعاملته, وأقبل على الرسول يعلن إسلامه.
إن الجانب الإنسانى كان واضحاً وقوياً فى معاملة الرسول لسفَّانة ولأخيها, وكانت هذه المعاملة من عوامل الجذب لدين الله.