التوبة
وتبدأ قصة الإسراء والمعراج فى بعض روايات البخارى، وفى بعض روايات غيره بشق الصدر، من ذلك ما يرويه أحمد بسنده عن أنس بن مالك قال:
كان أبى بن كعب يحدث أن رسول الله r قال:
"فُرِج سقفُ بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدرى، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه...".
هذا الحادث هو بالنسبة لنا التوبة، فإن تطهير القلب الذى حدث لرسول الله r ، عدة مرات فى حياته إنما هو بالنسبة لأتباعه بمثابة التوبة.
والواقع أن حياة المسلم في طريقه إلى الله، إنما تبدأ بالتوبة، وليس قبل التوبة من درجة تسبقها، والتوبة التى نتحدث عنها إنما هى التوبة الخالصة النصوح، فإن الله تعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ التحريم (8) فأرشد سبحانه إلى أن التوبة المطلوبة إنما هى التوبة النصوح، ولأجل أن تكون التوبة خالصة نصوحاً فإنه لا بد من توفر شروط.
ويتحدث الإمام النووي عن شروطها في كتابه المبارك "رياض الصالحين" فيقول:
التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:
أحدها – أن يقلع عن المعصية.
والثاني – أن يندم على فعلها.
والثالث – أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً.
فإن فقد أحد الثلاثة فلا تصح التوبة.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمى فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رَدَّهُ إليه، وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها.
ولأن التوبة أول سلم في معراج السالكين إلى الله، ولأنها واجبة من كل ذنب، ولأنها تجب (أى تمحو وتزيل) ما قبلها، ولأنها تضع الإنسان فور تحققه بها فى مرتبة البراءة والطهارة والنقاء، فإن الإسلام حث عليها كثيراً. يقول الله تعالى آمراً بها:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ النور (31)
وقد فتح الله بابها – خالصة نصوحاً – على مصراعيه، فقال فى أسلوب يسيل رحمة ورأفة:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ الزمر(53)
إنه سبحانه يغفرها بالتوبة، لأنه سبحانه يقول بعد ذلك موجهاً المسلمين إلى الطريق:
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونْ ﴾ الزمر (54-55).
ويتابع القرآن فى التوجيه إلى التوبة فى أسلوب كله رحمة ورأفة ما جاء فى حديث قدسى طويل رائع، يقول الله تعالى فيه:
"يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم".
ويتابع ذلك كله الأحاديث النبوية:
"إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل".
ورسول الله r ، يعترف بالخطيئة كواقع لا يتأتى إنكاره فيقول:
"كل ابن آدم خطاء".
ولكنه يرشد إلى الوسيلة التى تفضل بعض الخطائين وتجعل لهم منزلة فى الخير، فيقول:
"وخير الخطائين التوابون".
يقول الإمام القشيري:
ومن لطائف المعراج: ما خصَّ به أول حالة فى تلك الليلة بالطهارة على ما ذكرنا فى بعض الروايات فيما تقدم: أن جبريل عليه السلام حمله إلى زمزم وشق صدره وغسل قلبه.
وقد شق قلب النبي r مرتين: مرة في حالة صباه، وهو بعد في حجر حليمة، والمرة الثانية ليلة المعراج.
وفي تخصيص قلبه بالغسل دون غيره من البدن إشارات. منها: أن القلب محل العرفان، وهو المضغة التى بصلاحها صلاح البدن. وهو محل المشاهدة.
ولكي لايكون لغير الحق نصيب فى قلبه.
ولتنبيه الأمة على طهارة القلب.
وإذا كان شق الصدر الذي سبق هذا الحادث الخطير – حادث الإسراء والمعراج- هو بالنسبة لنا التوبة، فإنه أيضاً توجيه واضح لنا أن نلجأ إلى الله تعالى تائبين عند الشروع في أي عمل له قيمته.
إنه توجيه لنا أن نلجأ إلى الله تائبين عند الشروع فى شراء، وفى بيع، فى ارتباط بزواج، فى بناء بيت، فى الشروع فى سفر.
وليست التوبة فى مثل ذلك توبة من ذنب. وإنما هى التجاء إلى الله، وتشفع إليه سبحانه بتأكيد صفاء النفس وطهارة القلب من أجل أن يسدد الخُطى ويمنح التوفيق، ويحفظ من الأخطاء.
إنها توسل إلى الله بعمل صالح هو التوبة.