نلاحظ فى سيرة الرسول أن الخوارق أحاطت بالكعبة قبل مولده، ثم وقعت النبوءات الخارقة بعد مولده، ثم وقعت له خارقة "شق الصدر" فى طفولته، وأظله الغمام فى صباه، وصرف عن لهو الشباب البرئ.. وظلت عناية الله عز وجل تحرس خطاه حتى نزل عليه جبريل بالوحى.
بعدها أصبحت معجزته الأولى هى شخصيته وأفكاره.. صارت معجزته الكبرى بعد القرآن.. هى هذا البناء الروحى الشامخ الذى احتمل فى الله ما احتمل، وقاسى فى الحق ما قاسى، وأدى أمانته بكمال لا يطاول..
وأجمل ما يقال عن معجزات النبي بعد بعثته، أنه كان بلا معجزة.. بلا معجزة سوى تحرير العقل.. بلا خوارق سوى إطلاق الفكر.. بلا دليل غير كلمات الله.
لقد دعا عيسى بن مريم إلى المساواة والأخوة والحب.. أما محمد عليه الصلاة والسلام فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة والحب بين المؤمنين أثناء حياته وبعدها..
وعلى حين أحيا عيسى بن مريم الموتى وأخرجهم من قبورهم.. أحيا محمد بن عبد الله الأحياء من موتهم الذى لايدركونه، وذلك أقصى أنواع الموت.. وأخرجهم من ظلمة الجهل إلى طمأنينة العلم، ومن خبل الشرك والكفر إلى علم التوحيد.
ولقد كان سليمان نبيا وملكا يشتغل الجن فى خدمته ويطيرون آلاف الأميال لإحضار عروش أعدائه كى ينبهروا بقدرته فيسلموا.. أما محمد فكان يشتغل فى خدمة الإسلام، بدرجة جندى بسيط ووديع.. وكان يعلم أنه لو غفل عن دعوته لحظة، أو استسلم جسده لإعياء الكفاح المتصل، فقد ضاعت فرصته فى نشر الإسلام وتبليغ أمثالى وأمثالك من عباد الله أن يعرفوه عن جلاله ورحمته..
وفى لحظات الهول الكبرى فى معاركه، وكان وقت الصلاة يجئ.. فيصلى الجيش المقاتل.. لا تنزل الملائكة لتحميه أثناء الصلاة.. أو تمنع السهام عن ظهره خلال سجوده.. وإنما على الجيش المحارب أن يحمى نفسه بنفسه.. فليصل الجيش المؤمن بالتناوب.. جزء يصلى، وجزء يقوم بمهمة الحراسة.. ثم يتبادلان المواقع.. قال تعالى فى سورة النساء:
(وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) الآية (102)
انتهى الأمر، ولم يعد مع الجيش ملائكة لحمايته ونصره.. هذا عهد الرشد العقلى، عهد عناء الأنبياء والمؤمنين.. وعلى قدر العناء فى تبليغ الإسلام، يكون الجزاء..
ولقد كان العهد بالأنبياء قبل محمد أن يقدموا معجزاتهم لقومهم عند بدء الدعوة.. ليصدقهم القوم فيما جاءوا به. أما محمد بن عبد الله فلم يقدم لقومه غير شخصه وحده.. وصدقه وحده.. وقد اقتضت عناية الله بموسى أن يرفع الجبل على قومه ليؤمنوا بالتوراة، أو يسقط عليهم الجبل.. وسجد اليهود وقد وضعوا خدا على الأرض وتأملوا بما بقى من وجوههم كتلة الحجارة التى رفعتها يد القدرة الخفية..
أما محمد بن عبد الله، فلم يقهر أحدا على شيء.. آمن به من آمن عن رضا واقتناع، ومات معه من مات عن رضا واقتناع.. ولم يحمل هو السيف إلا حين اقترب السهم المسموم من قلب الإسلام وهدده.. بعدها لم يكن السيف فى يد الإسلام إلا مشرط جراح يشق الجسم الإنسانى إنقاذا للجسم الانسانى ورحمة به ورغبة فى شفائه..
ولقد كانت دعوات الأنبياء السابقين.. تقتضى ما وقع من المعجزات.. إن طفولة البشرية.. وضعف العقول.. وانطلاق الحواس.. اقتضت من رحمة الله أن يكون نوع المعجزة من نوع العصر الذى تتنزل فيه، ومن نوع الناس الذين تبعث إليهم، ولم يكن أهل مكة فى ذلك الوقت عقلاء أو حكماء تكفيهم الكلمات.. وإنما جاءت الصعوبة من كون الإسلام لم يبعث لهذا العصر وحده.. إنما أنزل لكل العصور.. وكان الله يعلم أن البشرية تدخل عصر النضج العقلى.. فشاءت حكمته أن تكون أولى كلمات الرسالة(اقرأ)..
وأن تكون معجزة الرسالة هى نوعية الفكر الذى تنطوى عليه، والنظام الذى تقيمه، والتشريع الذى تضعه.. والحرية التى تحييها.. والإنسان الذى تبنيه..
وليس ينقص من قدر الأنبياء قبل محمد أنهم لم يبعثوا فى عصور النضج العقلى عليهم صلوات الله وسلامه... إنما زاد فى قدر محمد أنه بعث لعصر النضج العقلى.. وبعث قبل مجئ هذا العصر.. فاحتمل أضعاف ما احتمله الأنبياء.. وقاسى فى الله أضعاف ما قاسوه.. وتعذب وحده بمثل ما تعذبوا جميعا، وأحب الله مثلما أحبوه وزاد.. وكرمه الله عليهم حين أمهم فى الصلاة فى رحلة الإسراء والمعراج.. ورغم هذا كله.. خرج يوما على صحابته فوجدهم يفاضلون بين الأنبياء ويقدمونه عليهم فغضب وجهه وتغير..
قال: "لا تفضلونى على يونس بن متى"..
وضع بكلمته خطا فكريا يسير عليه المسلمون... ليكن الأنبياء درجات عند الله..