العودة للصفحة الرئيسية

رملة بنت أبي سفيان
" أم حبيبة " رضى الله عنها

إن لله جلت قدرته أيد رسوله الكريم بنصر عظيم على أعدائه الذين تأمروا عليه ووقفوا في سبيل دعوته يصدون الناس عنها، ويشيعون حوله ما نطقت به ألسنتهم من كذب وافتراء على رجل اصطفاه الله واختاره لحمل الرسالة وهداية البشر ، وكان يعامل الصديق كما يعامل العدو في حال الدعوة والتوجيه، وإذا ما سمع الأذى من عدوه رفع يديه إلى السماء وقال : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". ومع أنه كان رجل دعوة فقد كان له عقل الساسة الكبار والمصلحين العظام الذين ألقت عليهم الأقدار مسئولية القيام بهداية البشر، والأخذ بأيديهم حتى يتبوءوا مكان الصدارة والسعادة فى المجتمع.
هذا النبي الكريم لم ينس أصحابه، القريب منهم والبعيد، لأن مثله في المجتمع كمثل الهواء الطيب الذي تنتعش به النفوس، وتهدأ به القلوب، ويسترد به الجسد صحته وعافيته. وعندما بدأ يبشر بدعوته وأسلم له قوم شرح الله صدورهم للإسلام أوذوا من قومهم، وتحملوا في صبر وجلد عذابهم واضطهادهم ، وكان من بين هؤلاء الشابة المليحة الوضيئة " رملة بنت أبي سفيان " التي تحملت فى سكون عذاب قومها وسخرية أهلها ، وبذاءة السفهاء منهم. ونحن إذ نقدمها اليوم ونلقي على سيرتها ضوءاً نبراساً طيباً لأمهاتنا وإخواننا، ويتعرفن على ما تصنعه العقيدة من قوة وثبات. 
اسمها ونسبها
هى السيدة رملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب القرشية الأموية، وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن مظعون، ومن المعروف تاريخياً أن أبا سفيان كان عدوا لدوداً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)  فهو المحرض على الموقعة الحربية التي وقعت بين المسلمين والمشركين فى "بدر" ثم هو الذي قاد المشركين في "أحد" لينتقم من المسلمين، وتوعدهم مقسماً باللات والعزى ليحاربن المسلمين في العام القادم. وخرج على رأس الأحزاب مجتمعة لقتال المسلمين، وما زال على عدائه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى فتح الله مكة على المسلمين، وقد أسلم في اللحظة الأخيرة خوفاً من الانهزام.
إسلامها وإيمانها
أسلمت رملة رضي الله عنها مع السابقين إلي الإسلام، وكانت متزوجة من عبيد الله بن جحش الأسدي الذي أسلم معها وهاجرا معاً إلى الحبشة، ووضعت هناك بنتاً أسمتها "حبيبة " فأصبحت تُعْرَف منذ ذلك التاريخ  "بأم حبيبة". وقد عاشت في الغربة بعيدة عن وطنها وأهلها التي كانت تشتاق إليهم ، ولكن الذي كان يؤنسها في غربتها رباطها الروحي العظيم برسول الله وبمن معه من المؤمنين الذين بقوا في مكة. 
وكانت تعلم من أخبار قومها أن أباها من الزعماء المعاندين لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان يتوعدها حيث خرجت من طوعه وأسلمت بدون أمره، وهاجرت بدون علمه. وبينما هى فى مهجرها رأت رؤيا كدرت عليها حياتها وجعلتها تعيش مضطربة النفس، قلقة الخاطر، حتى تحققت رؤياها، فزادها ذلك نكداً على نكد. وكان هذا الحلم : أنها رأت زوجها في صورة سيئة، وبعد ذلك تَنَصَّرَ وارتدَّ عن الإسلام ، وكم حاول أن يأخذها معه ليردها عن دينها، ولكنها صبرت وتضرعت إلى الله أن يعصمها ويحفظ عليها دينها الذي هو أغلى من كل شيء. ولقد عاشت بعد فترة لا يعلم إلا الله كم تحملت فيها من مرارة فراق زوجها الذي ترك لها بنتاً في عمر الزهور وهى غريبة عن الأهل والوطن، مما جعلها تشعر بالخزي مما فعله زوجها الذي بدَّل دينه فهو لم يبق على دين قومه عَبَدَةَ الأوثان والأصنام ولكنه آمن بالدين الجديد، ثم تنكر لكل هذا ودخل فى دين آخر، مثله كمثل إنسان يستبدل ثوباً بثوب، ليس له على هذا صبر ولا على ذاك جلد. ولقد كانت تنظر إلى ابنتها فيمزق الأسى قلبها وتقول في نفسها : ما ذنب هذه الطفلة البريئة التي أصبحت تعي ما يدور حولها وقد رأت أن أباها وأمها كلا منهما فى واد لا يجتمعان، وهما في غربة لا يعلم إلا الله مداها ، فلاذت بالإيمان، واعتصمت بربها: ) وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (آل عمران.
منحة بعد محنة
الصبر ضياء، ومن صبر امتثالاً لأمر الله عوَّضه الله خيراً كثيراً ، ) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ( سورة الزمر . لقد صبرت رملة رضي الله عنها صبر الأبطال، وجاهدت نفسها وهواها حتى لا تنزلق فى تيار الارتداد، لقد شهدتها نجوم الليل ساهرة تلقى نظرة حنان على طفلتها ، وتدعو ربها أن يكون لها عوناً ونصيراً ومؤيداً ، فأيدها ربها، وإذا هى ذات صباح تفتح بابها بعد أن استيقظت على من يناديها في منامها بقوله: "يا أمم المؤمنين" فصاحت فى نفسها : كيف ؟ أرسول الله يتزوجني؟ وإذا هى بطرق على الباب الذي ظل كثيراً لا يُفْتَح لأحد غيرها بعد أن ابتعد عنها الذي كان يطرق عليها ومات فى غربته، وقد جاءتها تلك الطرقات بعد أن انتهت عدتها من زوجها المرتد، ولقد كان الطارق عليها رسول من قبل النجاشي، امرأة تسمى "أبرهة"، جاءت تقول لها: يقول لك الملك إن رسول الله كتب في أمر زواجك منه ، فصاحت "أم حبيبة" فى فرح : بشرك الله خيرا!! ويقول لك الملك أيضاً وكلي من يُزَوِجِكْ. ولقد أخذتها نشوة الفرح ، واستعادت ماضيها الطويل، وأخذت تقول فى نفسها : أنا بنت أبى سفيان العدو اللدود لرسول الله. أنا زوجة الهالك المرتد، أنا الغريبة الوطن البعيدة المنزل أكون زوجة لنبي الهدى؟ أشرق الإيمان في نفسها، وظهر السرور على وجهها ، فنزعت سوارين من معصمها وقدمتهما إلى "أبرهة" تحفة البشرى والنبأ السعيد والمنزلة الخالدة التي تتطلع إليها عيون الكثيرات من النساء. وإذا كان الصبر مفتاح الفرج ، وبعد العسر يأتى اليسر ، وبعد ظلام الليل يأتي نور الصباح الذي تسير الإنسانية في هداه ، فإن التي عاشت قلقة النفس، مضطربة الفكر، بعيدة الأهل ، غريبة الوطن، قد أتى إليها الفرج العظيم بنبأ زواجها من نبي الإسلام.
حفل زواجها
أرسلت رملة إلى خالد بن سعيد بن العاص، وكان من المؤمنين المهاجرين، فوكلته في زواجها. وبعد العشاء دعا النجاشى جعفر بن أبى طالب وجميع المسلمين ، ثم تكلم النجاشى فقال : " أما بعد، فإن محمداُ رسول الله كتب إلىَّ أن أزوجه أم حبيبة ، رملة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه الرسول، وَأَصْدَقْتُهَا عنه أربعمائة دينار". وسكب الدنانير بين يدي القوم، وعندئذ نهض وكيلها " خالد" فقال : "الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله لو كره المشركون، أما بعد : فقد أجبت إلى ما دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وَزَوَّجْتُهُ من رملة بنت أبي سفيان، فبارك الله رسول الله". ثم قبض الدنانير. وأراد القوم أن ينصرفوا فقال لهم النجاشى: "اجلسوا فسنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يقدموا الطعام لمن حضروا الزواج". ثم دعا بطعام، فأكلوا ثم تفرقوا.
باتت أم المؤمنين هادئة النفس، قريرة العين، وفي صباح اليوم التالي جاءتها "أبرهة" تحمل إليها هدايا نساء الملك من كل ما تحفل به بلاد الحبشة ، فقالت لها "رملة: يا أبرهة، كنت أعطيتك السوارين بالأمس وليس بيدي شيء من المال. تأمل : ليس عندها مال، ولكن عندها حسن الظن بالله والثقه به، وقد جاءني الله عز وجل بهذه الهدايا. ودفعت إليها خمسين ديناراً. ولكن "أبرهة" ردت الدنانير والسوارين وقالت : يا سيدتى، إن النجاشى أجزل لي العطاء وأمرني ألا آخذ منك شيئاً. وهذا مثل لو أنَّ نساءنا تعلمن منهن لكان لهن نور وضياء في حياتهن.
مواقف من حياتها
المتتبع للأحداث الماضية يرى أن زواج النبي (صلى الله عليه وسلم) من "رملة"" ليس وراءه غرض من أغراض الدنيا، ولكنه زواج إنساني المنزع، كريم العواطف، فرضته ظروف تلك السيدة المسلمة المهاجرة التي صرت وتمسكت بدينها، ثم هو زواج سياسي القصد، من ورائه تليين تلك العواطف الجامحة عند أبى سفيان ومن معه، ثم إنه زواج يربط بين قلوب تنافرت، ويؤلف بين أفئدة تباعدت، فهو ليس زواجاً يُقْصَدُ به متعة أو لذة كما تقول بعض الألسنة الحاسدة الناقمة التي لا تعرف تلك العواطف الكريمة التي طُبِعَ عليها نبي الإسلام، أما أبو سيفان الزعيم الثائر على دعوة الإسلام فعندما علم بهذا الزواج قال: " هذا الفَحْلُ لاَ يُجْدَعُ أنفه"! وهذا مدح لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عدو، والفضل ما شهدت به الأعداء.
وسارت الأيام فى مجراها، وعادت أم حبيبة إلى المدينة لتحتل مكانها في بيت النبوة، وقد كان يؤلمها أن أباها ما يزال على الوثنية يؤلِّب المشركين، وبين الحين والحين تدور رُحَى المعارك، ويسقط قتلى من شيعة أبيها، وشهداء من صحابة زوجها (صلى الله عليه وسلم) وتطورت الأحداث، ونقضت قريش صلح الحديبية، ولاحت نذر الخطر تهدد زعماء مكة الذين اجتمعوا يتشاورون، واستقر رأيهم على إيفاد رسول منهم إلى المدينة ليفاوض محمدا فى تجديد الهدنة ومد أجلها عشر سنين واختاروا أبا سفيان لهذه المهمة، لأن له بنتاً تحت رسول الله. وفوجئت أم المؤمنين بأبيها يدخل بيتها، ولم تكن قد رأته منذ هجرتها إلى الحبشة، وأراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فطوته عنه ،فسألها:أطويته يا بنية رغبة بى عنه أم رغبة بالفراش عني؟ فقالت له : هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنت رجل مشرك فلا أحب أن تجلس عليه. ورد أبو سفيان : لقد أصابك بعدي شر.
ووقفت "رملة" تفكر في تلك الأحداث الطوال وهى معطلة الحواس، عصية الدمع لكل ما مر بها من أحداث، إنها تلك المرأة التقية النقية التي لم تأذن لأبيها بالجلوس على فراش زوجها ونبيها، زادها الله تكريماً، وأنزل في زواجها من رسول الله: )عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ( الممتحنة. لقد التزمت طوال حياتها بتوجيهات رسول الله، فعندما جاءها نعي أبيها دعت بطيب فمسحت ذراعيها وقالت: ما لى من حاجة لولا أني سمعت رسول الله يقول : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ". كما أنها كانت تصلي كل يوم اثنتي عشرة ركعة وتقول: سمعت رسول الله يقول: "من صلي اثنى عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بيت في الجنة" قالت "أم حبية" "فما تركتهن منذ سمعت ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
عاشت "أم حبيبة" حتى رأت نبي الإسلام يدخل مكة، ويدخل أبوها فى دين الله، فسجدت لله شاكرة، وعاشت متعبدة خيرة، صالحة تقية، حتى توفيت سنة 44 هـ فى خلافة معاوية، ودفنت بالبقيع مع أمهات المؤمنين، رضوان الله عليهم أجمعين.