ماري القبطية
مارية القبطية التي ربطت بين أرض مصر الطيبة وبين المدينة المنورة وأصبحت أما لولد هو "إبراهيم " وأبوه سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم) .
على أرض مصر الطيبة وفي قري من قراها العامرة شاءت إرادة الله سبحانه لمارية بنت شمعون أن تحيا أيامها الأولى من عمرها حتى اكتمل عودها، فانتقلت إلى بيت المقوقس عظيم قبط مصر. وعاشت كأترابها، ما هو مخبوء لها في عالم الغيب، ولا ما يكنّ لها، وكانت تشاركها حياتها أختٌ لها اسمها "سيرين". ومضت الأيام، وبدأ الناس يتحدثون عن ظهور نبي بُعث في جزيرة العرب يدعو الناس لعبادة الواحد الأحد الديان، مالك الملك، رب العالمين، وكانت هى تتسمع تلك الأخبار فينشرح صدرها ويشرق الأمل في نفسها، ولكنها لم تكن تعرف سبب ذلك ، فتمضي في عملها حتى لا يلحظ أحد ذلك عليها.
مرحلة جديدة
وفي السنة السادسة الهجرية عقد صلح بين النبي الكريم وبين قريش سُمِّيَ "بصلح الحديبية"، وبسب هذا الصلح هدأت الأحوال وتوقفت الحروب فترة من الزمن. وصاحب الدعوة يقظ يتحين الفرصة لتبليغها إلى أكبر عدد من الناس علَّهم يستجيبون له ويسمعون صوت الحق، وما كادت تلك المعاهدة والحروب تتوقف حتى بادر النبي الكريم بإرسال كتب ورسل إلى الملوك والرؤساء يدعوه إلى الإسلام ويعرض عليهم الإيمان ويتلو عليهم القرآن،وكان من الذين خاطبهم وأرسل إليهم " المقوقس"، وكان الرسول الذي حمل الرسالة هو "حاطب بن أبي بلتعة" رضي الله ، عنه وهو صحابي كريم، ومجاهد عظيم، شهد بدرا وما بعدها من المواقع ، وكان على علم تام بمهمته وما تتطلبه من مهارة وقدرة في الإقناع بالمبدأ الذي يؤمن به.
رسالة النبي(صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس
حمل حاطب بن أبي بلتعة رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس وهذا نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلامٌ على من اتبع الهدى .أما بعد: فاني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.فإن توليت فإنما عليك إثم القبط ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ آل عمران
وقرأ المقوقس هذا الكتاب المشرق ثم طواه في عناية وتوقير ووضعه في حُقٍّ من عاج، ثم دفعه إلى واحدة من جوايه، وبعد ذلك التفت إلى حاطب بن أبي بلتعة يسأله عن النبي وصفته.وشرح حاطب باستفاضة وذكر ما يعرفه من محامد هذا النبي.
وما كاد المقوقس يسمع من حاطب ويفكر مليا فيما سمع ثم قال: قد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وهناك كان مخرج الأنبياء، ولكنه خرج من أرض العرب. ولكن القبط لا تطاوعني وأنا أضن بملكي أن أفارقه.ثم دعا بكاتبه فأملى عليه: "أما بعد .... فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وبثياب ومطية لتركبها، والسلام". ولما دفع المقوقس كتابه إلى حاطب وصَّاه بأن يكتم ما دار بينهما من حديث.
وعاد حاطب إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ومعه الهدايا وهى : مارية وأختها سيرين، وعبدٌّ خصيٌّ وألف مثقال ذهباً، وعشرون ثوبا من نسيج مصر، وجواد مسرج، وحمار أشهب، ونوع من العسل، وبعض العود والمسك.
وانطلق حاطب بذلك عائدا إلى المدينة حيث كان الحبيب المصطفي ورفاقه الأبرار، وبلغ الركب المدينة سنة سبع، وتلقى النبي (صلى الله عليه وسلم) الهدية. وحجز لنفسه مارية، أما سيرين فإنه أهداها إلى شاعره حسان بن ثابت.
طار نبأ تلك الوافدة الجديدة إلى نساء النبي الكريم فكان هناك نوع من القلق، خاصة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يبدى نحوها اهتماما خاصا قد يكون فيه دوافع إنسانية، وتلك صفاته مع كل من يلتقي به، وقد يكون هناك نوع شبه بين الوافدة وبين جدتنا هاجر أم إسماعيل ، لأنها كذلك من مصر بلد الخصب والنماء.
ومضت الأيام ومارية كانت تحب سماع قصة هاجر ونجدة السماء لها مع وليدها عند بيت الله الحرام، وهى قد أسلمت وحسن إسلامها، ودأبت على قراءة القرآن والذكر والدعاء. ومضت سنة من اقتراب الرسول (صلى الله عليه وسلم) منها، وبدأت تحس ببوادر تغيرت بسببها حياتها.إن هناك ما يشبه الحمل، فهل يصدق ظنها وتكون أما لمولود لهذا النبي الذي تزوج بعد خديجة الكثير ولم ينجب من أي واحدة منهن. ومضي شهر وشهر ولم تبح لأي بما تحس به، ثم أفضت بسرها إلى أختها سيرين، ووصل الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرفع وجهه إلى السماء شاكرا لله رب العالمين، وكان لهذه البشرى وقع في نفس الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذى بات يرعاها وعمل على راحتها.
إشاعة وتكذيب
ولم تكتمل الفرحة التي سرت في أنحاء المدينة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينتظر مولودا من مارية المصرية، فسرعان ما انتشرت إشاعة كاذبة بأن مارية لها اتصال برجل وَفَدَ معها وكان يأوي إليها يأتيها بالماء والحطب، فقال الناس في ذلك :"عِلج يدخل على علجة،" وعلج كلمة تقال للأحباش وتقال لكل حاف غليظ من الرجال ".
وبلغ الخبر إلى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاغتم لذلك ، خاصة أنه قد سبق أن تكلم الناس في حق أم المؤمنين عائشة فبرأها الله مما قالوا، ولكن هل يترك الرسول(صلى الله عليه وسلم) مارية ويتخلى عنها _ لا_ إنه لم يتركها في محنتها بل أراد أن يثبت من الخبر عملا بقوله الله: ﴿ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ . عندئذ أرسل الرسول (صلى الله عليه وسلم) سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه إلى هذا الخادم ليتعرف على أحواله فوجده على نخلة هناك، فلمّا شهر سيدنا على سفه وقع في نفس القبطي الخوف وألقى الرداء الذي كان يستره فتعرى فإذا هو " مجبوب"، فرجع سيدنا على إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بما رأى من القبطي. ثم جاء أمن الوحي جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فاطمأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد ذلك نقلها إلى ضاحية من ضواحي المدينة بمكان يسمى العالية توفيرا لراحتها، وعناية بصحتها وصحة الجنين.
الوليد إبراهيم
وتقدمت الأيام بمارية، وكان الرسول الله(صلى الله عليه وسلم) يرعاها وكذلك أختها سيرين، حتى إذا اكتمل الجنين وحانت ساعة الوضع في ليلة من شهر ذي الحجة سنة 8 ﮬ ،أرسل الرسول (صلى الله عليه وسلم) قابلتها " سلمي" زوج أبي رافع ، وخرج الوليد إلى الدنيا يعلن صلته بها، وكان سبباً في إكرام أمه التي أُعتقت من الرِّق بعد ذلك حيث أصبحت أم ولد.
وحمل الرسول ولده بين يديه وسمَّاه إبراهيم تيمنا بجده إبراهيم عليه السلام، وتصدَّق الرسول(صلى الله عليه وسلم) على كل مسكين في المدينة بوزن شعر الوليد وِرْقاً (أى فضة)، وكانت لحظات السعادة تغمر النبي الكريم وتغمر كذلك مارية التي شعرت أنها أسعدت هذا الرسول (صلى الله عليه وسلم) العظيم، حيث ولدت له على الكبر إبراهيم، ولكن تلك السعادة لم تدم فما كاد إبراهيم يبلغ من العمر عامين حتى ألمَّ به مرض، فجزعت أمه وسهرت بجواره، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدخل عليه وهو محزون القلب، ليست له حيلة في دفع ما نزل بوليده،حتى إذا حان وبلغ الأجل مداه دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فسأله أحد أصحابه: لم هذا الدمع؟ فقال :" إنها رحمة أودعها الله في قلب من أحب من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". ثم يقول: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون"... وأقبل الفضل بن عباس فغسل الميت وأبوه ينظر إليه، ثم قبر في البقيع في يوم غام فيه الأفق فقيل:" غام الأفق وانكسفت الشمس لموت إبراهيم وبلغت الكلمة أذن الرسول، فلم يتركها هكذا، وإنما وجه الناس إلى الحق والصواب فقال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته"... ثم طوى الرسول قلبه على جُرحه مستسلما لأمر الله وقضائه، وما هو إلا عام حتى لحق الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى بعد هذا الحادث الذي مر في حياته.
نهاية المطاف
أما مارية التي دخلت التاريخ وتبوأت هذا المكان الكريم فقد عاشت بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) خمس سنوات في عزلة لا تلقى أحدا إلا قليل، عاشت عابدة متعبدة لله خاشعة، وأسلمت روحها لله ولقيت ربها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 16 ﮬ ، وكفاها فخرا أن الله تعالى تدخل لحمايتها، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رزق منها الولد في أخر أيامه، وكانت سببا في أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوصي بأهل مصر خيرا بعد أن تم هذا الرباط الوثيق، وأعادت سيرة هاجر مع إبراهيم في تلك البقعة المباركة من الجزيرة العربية. ولما جاء عبادة بن الصامت الصحابي الجليل إلي مصر بعد فتحها بحث عن قرية مارية، وسأل عن موضع بيتها وبني به مسجداً. والحسن بن علي طلب من معاوية رفع الخراج عن أهل قرية "حفن" بلدة مارية بقرى الصعيد بمصر إكراماً لذاكرها.
إن حياة مارية فيه العظيمة والعبرة لأمهاتنا وإخوتنا وبناتنا، نسأل الله أن يجعلنا من المستفيدين من حياة أزواج نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم).