العودة للصفحة الرئيسية

جويرية بن الحارث
إذا مد الإنسان القوى يده إلي الضعيف لينهض بشخصه ويرفع من ضعفه ويسمو بقدره دون أن يمن عليه فان ذلك يعتبر من سمو الأخلاق ونبل الصفات، وهذا ما تحلى به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان من خُلقه أن يعفو عمَّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ولقد كان من شمائله ما ذكره الله عز وجل وجعل منهاجاً له ولأمته: ﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ فصلت.
ولقد ضرب نبينا صلوات الله وسلامه عليه أمثلة رائعة في هذا السبيل أصبح مضرب الأمثال، ولقد كانت تلك الصفات مما جمعت حوله القلوب وألفت النفوس، وجعلت أعدى أعدائه أحب أحبائه. ولقد كان من منهجه في تعدد زوجاته أن يؤلف القلوب ويجمع حوله الناس ليدخلوا في دين الإسلام دين السماحة والعدل والحق.
والمتأمل في زواجه صلوات الله وسلامه عليه من جويرية بنت الحارث يجد هذا المثل. لقد خاض النبي غمار حروب انتصر فيها وساد،وأصبحت كلمته في الجزيرة العربية يعد لها ألف حساب وحساب، ونحن نرى من مجريات الأحداث التي مرت به صلوات الله وسلامه عليه أن المشركين عندما جمعوا جمعهم و حزَّبوا أحزابهم وساروا في جحافل من الجيوش نحو المدينة ليقصدوها بسوء في السنة الخامسة من الهجرة وأشار أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحفر الخندق الذي سميت الغزوة باسمه، ونرى أن اليهود المجاورين للمدينة انقادوا للمشركين وساروا في ركبهم، ولكن الله القوى القادر الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق كتب للإسلام النصر ولرسوله التأييد وانهزم الأحزاب، وبعد ذلك تفرغ الرسول لتأديب بني قريظة، وبعد ستة أشهر من هذه الأحداث كان النبي يراقب بحذر ما يجرى ف المحيط الذي حوله فشعر بحركة لم تبعث في نفسه الارتياح، لأن بني المصطلق أعدوا عدة لاغتياله صلوات الله وسلامه عليه، وعندئذ جهز جيشه ونادى مناديه بالجهاد، وتحرك الركب من المدينة حتى وصل قريبا من قبيلة خزاعة، ونزل عند مكان به ماء يسمى "المُرَيْسِيع" وحاصر بني المصطلق الذين سِيقَت نساؤهم سبايا، وكان من بين النساء" برَّة بنت الحارث بن أبي ضرار "التي أصبحت فيما بعد"أم المؤمنين جويرية بنت الحارث".
اسمها
هى برَّة بنت الحارث زعيم بني المصطلق وقائدهم، وكان هذا الرجل يكنُّ العداء لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ولدعوته، وقد جمع الجموع ليحاربه ويقضي على الرسول، خاصة بعد أن هزم الأحزاب وانتصر الرسول على بني قريظة، ثم أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) انتصر بعد ذلك على بني المصطلق وسبى نساءهم وَوُزِّعَت السبايا على الجند من أتباع النبي العظيم(صلى الله عليه وسلم)  ووقعت "برَّة" في سهم "ثابت بن قيس" الذي كاتبها على تسع أواق من الذهب تدفعها فدية عن نفسها. وقد ذهبت إلى القائد العظيم (صلى الله عليه وسلم) تسأله أن يعينها بماله حتى تفك أسرها. لقد ذهبت إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)  وهى تقول له: " أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، قد أصابني من البلاء ما قد علمت، فوقعت في السهم لثابت بني قيس، فكاتبته على نفسي ، فجئتك أستعينك على أمري".
وقد كانت تتكلم وفي صوتها نبرة أسى، لأنها بالأمس كانت عزيزة الجانب لها مكانتها في قومها، لأنها بنت سيد الناس، العربي الحر، فأصبحت رقيقة. فنظر إليها الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم، الذي من شمائله أن يرحم الضعيف والمسكين، ومن مبادئه:" ارحموا عزيز قوم ذل"، وتكلم الكريم وقال : " فهل لك في خيرٍ من ذلك؟"، وسألته في لهفة : وما هو يا رسول الله؟ قال لها: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك". وتهلل وجهها بالفرح، لأن مثلها مثل الغريق الذي وجد المنقذ لينقذه من الهلاك والغرق وأجابت: " نعم يا رسول الله". ورد عليها الشهم الأصيل النبي العربي (صلى الله عليه وسلم) :" قد فعلت ".
حياتها من قبل
لقد كانت هذه السيدة متزوجة من ابن عم لها يسمي "صفوان من مالك" وقُتِل عنها في يوم الأحزاب، وعندما وقعت أسيرة وكانت مخايل الجمال تبدو على وجهها ، لأن سنها لم يتجاوز العشرين – كانت تخشى على نفسها أن يصيبها الهوان والضياع للرق الذي لحق بها، وأنها سَتُبَاع بعد ذلك في الأسواق. وما إن سمعت أذناها كلام الرسول صلوات الله وسلامه عليه حتى أشرق الأمل في قلبها، ورأت السعادة تلوح أمامها وأشرقت البسمة على وجهها، لأنها ستدخل التاريخ وستتبوأ السعادة مكانا كريماً، ويُتلي في شأنها قول الله تعالي : ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً﴾الأحزاب.
حياتها في بيت النبوة  
عندما عرض عليها الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقضي عنها كتابتها ويتزوجها وشاع الخبر في المدينة بأن الرسول(صلى الله عليه وسلم) قد تزوج بنت الحارث سيد بني المصطلق أقبل جميع الصحابة على من بأيديهم من أسرى قومها ففكوا إسارهم وأرسلوهم أحراراً، وكان واحد من الصحابة يقول : " أصهار رسول الله "، ومن هنا أصبحت هذه المرأة لها فضل على قومها، وأصابهم من وراء هذا الزواج بركة عظيمة. وعندما تزوجها الرسول غيَّر اسمها من "برَّة" إلى "جويرية" لئلا يقال: خرج  من عند "برّة" ودخل إلى"برَّة". وهذا الزواج كان من ورائه خير عظيم فإن الحارث بن ضرار ما كان ليطمع في أن تنال ابنته هذا الشرف وأن تضم إلى نساء النبي العظيم، بل إنه جاء إلى المدينة وهو يحمل الفداء لابنته وقال :"يا محمد ،أصبتم ابنتى وهذا فداؤها،فإن ابنتى لا يُسبَى مثلها" فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" أرأيت أن أُخَيِّرها، أليس قد أحسنت؟" فأجاب: بلى. فأتاها أبوها فذكر لها ذلك، فقالت:" اخترت الله والرسول".. لقد أسلمت وحسن إسلامها، وعندما سمع أبوها منها ذلك صاح بأعلى صوته: "وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ".
ولقد أصدقها الرسول أربعمائة درهم ولقد جمعت هذه الصلة بين المسلمين وبين بني عبد المصطلق جمعتهم في إطار واحد، وهذا النسب ينسون سخافات الجاهلية، كما أنهم كانوا عبيداً أذلة فأعتقهم النبي الكريم، وأصبحوا يتفاخرون بأن ابنتهم أصبحت زوجة لقائد المسلمين وأصبح بنو المصطلق بهذه المصاهرة حراساً لدعوة الإسلام، أمناء على الإيمان، يدفعون زكاة أموالهم، ويساهمون في الدفاع عن الدولة العظيمة.
حادث أليم
حدث أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرسل إلى قومها الوليد بن عقبة ليأتي منهم بزكاة المال، فاجتمعوا وخرجوا في وفود هائلة احتفاءً بالقادم من قبل الصِّهرِ الكريم، وما أن رأى الوليد جمعهم حتى كر عائدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يحكي له أن بني المصطلق جمعوا جموعهم وهم يتحرشون بالإسلام وبمن يأتي من قبل نبي الإسلام. وثارت ثائرة المسلمين وطالبوا بقتالهم، ولكن بني المصطلق أرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقولون له: خرجنا نُرحب برسولك القادم إلينا من قبلك ولكنه خُيِّل إليه أننا ننوى شرا، ولكن يعلم الله ما أردنا برسولك إلا خيراً . وهنا نزل قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَالحجرات. ومن هنا يتبين لنا نظرة الرسول السياسية الصائبة بزواجه هذا الذي ضم إليه قبائل لها بطش شديد وأصبحت ترى في سيدها.
حياتها ووفاتها 
عاشت سيدتنا "جويرية" في بيت النبوة وقد حسن إسلامها، وتعبدت وزادت صلتها بالله وأصبحت ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة والقدوة، وكانت طيبة كريمة، تحسن إلى المحتاجين، وتتصدق على الفقراء. وبعد أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى لم تَخُض غمار الحياة الاجتماعية وصارت قعيدة بيتها حتى توفيت في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة 56ﮬ ولها من العمر خمس وستون عاماً، علماً بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تزوجها ولها من العمر عشرون عاماً وصلى عليها مروان بن الحكم والى المدينة، وعرفت في تاريخ الإسلام بأم المؤمنين التي لم تكن امرأة أعظم على قومها بركة منها رضي الله عنها وأرضاها، وألحقنا بها في مقاعد المتقين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .