العودة للصفحة الرئيسية

إعطاء الإذن بالهجرة
فشلت المفاوضات مع أول المسلمين، صلي الله عليه وسلم.
وكان فشل المفاوضات إيذانا بعودة الإيذاء والاضطهاد.. وتفنن المشركون والمجرمون في إيذاء المسلمين. وخامر النبي حزن لهذه المآسي التي تقع لأصحابه.. وحين انتهي المسلمون من دفع الثمن الكامل لعقيدتهم واحتملوا في الله أقصي الطاقة أَوْعَزَ الرسول إليهم بالهجرة. أعطي الإذن بالهجرة لمن يريد أن يهاجر. وبدأت موجات الهجرة. وكان ذلك لخمس سنوات من نزول الوحي عليه.. وبعد سنتين من إعلان دعوته. وهاجر إلي الحبشة ستة عشر مسلما. خرجوا في الخفاء، واتجهوا صوب البحر، وركبوا الموج رغم كراهية أهل الصحراء له وخوفهم منه واعتقادهم أن الناس حين تركب البحر تتحول إلي دود علي عود سابح.
وتلت موجة الهجرة الأولي موجة ثانية، حملت هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا وتسع عشرة امرأة. وامتدت يد قريش إلي الحبشة تحاول إيذاء المهاجرين.. أرسلوا إلي النجاشي ملك الحبشة من يثيره ضد المهاجرين، ويتهمونهم بأنهم فارقوا دين آبائهم في مكة، ولم يدخلوا دين النجاشي وهو النصرانية. وطالبت قريش برد المهاجرين بتأديبهم، ولم تنس قريش أن ترسل إلي النجاشي بهدية.. ترشوه بها.
يبدو أن النجاشي كان رجلا عاقلا، فأرسل إلي المهاجرين يسألهم عن هذه الديانة الجديدة التي ابتدعوها. وحدثه المهاجرون عن الإسلام. سألهم عن عيسي فقالوا:

  1. هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البتول.

وأخذ النجاشي عودا صغيرا من الأرض وقال: لم يزد عيسي علي ما قلتم قدر هذا العود. اذهبوا فأنتم آمنون. ورد هدية قريش وهو يقول: ما أخذ الله الرشوة مني حتي آخذها منكم، ولا أطاع الناس في حتي أطيعهم فيه.
وهكذا أقام المهاجرون من المسلمين في ديار آمنة هي الحبشة.. ديار يحكمها رجل أوتي رشده فآمن بطبيعة المسيح البشرية، رغم إيمان كنيسته بغير ذلك.
ومن عجائب تدبير القدرة الإلهية، أن هذا النزيف في جسم المجتمع الإسلامي. متمثلا في الهجرة- لم يؤد إلي ضعف الإسلام، وإنما زاده قوة فقد عوض الله تبارك وتعالي الدعوة الإسلامية بإسلام رجلين عظيمين.. هما: حمزة عم النبي صلي الله عليه وسلم. وعمر بن الخطاب.. الفاروق ورجل الحق. ولقد كان الرجلان من ذوي الشخصية القوية في مكة، كان كل واحد منهما سيدا عظيما في قومه.. وشاءت إرادة الله عز وجل أن يؤتي أصلب رجلين في مكة من ينبوع الرحمة الذي كان كامنا فيهما ولا يعلمان.
أسلم حمزة بدافع الغضب والعصبية والرحمة تجاه من لا يدفع عن نفسه الأذي.
قالت إحدي النساء لحمزة يوما: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام (أبو الجهل)، فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه. ومحمد صامت لا يكلمه.
وغلي الدم في عروق حمزة.. وأسرع مشتعلا بالغضب يبحث عن أبي جهل فرآه يجلس بين قومه. فرفع حمزة يده بقوس كان يمسكها وضرب بها رأس أبي جهل وهو يزأر: أتشتم محمدا وأنا علي دينه؟!
تلك كانت بداية إسلام حمزة. كان حمزة رجلا كريما بحق.
آذي مشاعره أن يضطهد ابن أخيه فلا يرعي الناس له ذمة، رغم أنه ابن أخيه.. تلك كانت البداية. أو السبب المحرك للإسلام. أما العمق البعيد فكان هذه الرحمة التي أودعها الله في نفس حمزة دون أن يدري حمزة.. وهي رحمة لم تستطع أن تهضم إيذاء رجل يدعو إلي الله، لمجرد أنه ضعيف وبغير أنصار.. فليكن حمزة إذن نصيره.
أما عمر بن الخطاب.. فكان معروفا بحدة الطبع وقوة الشكيمة وصلابة الرأي..
وطالما لقي منه المسلمون الأذي حين كان علي جاهليته..
وكان من بين من يلقون منه البلاء.. عامر بن ربيعة وزوجته.. وقرر عامر وزجته الهجرة إلي الحبشة.. وأقبل عمر بن الخطاب يوما فوجد زوجة عامر ولم يجد زوجها.. رآها تتهيأ للرحيل والهجرة.. قال (وينبوع الرحمة في نفسه يتحرك):
أتنطلقون يا أم عبد الله...؟
قالت المرأة الثائرة:نعم والله لنخرجن في أرض الله ،فقد آذيتمونا وقهرتمونا..ننطلق حتي يجعل الله لنا فرجا...
قال عمر: صحبكم الله...
ورأت المرأة في وجهه رقة وحزنا.. فلما عاد زوجها حدثته أنها طامعة في إسلام عمر.. قال زوجها: لا يسلم حتي يسلم حمار الخطاب..
قالها من شدة ما كان يجد من عمر، غير أن إحساس المرأة الداخلي، كان أقوي من رأي الرجل وحكمه السريع علي عمر.. فلم تمض أيام علي هجرة من كان عمر يعذبهم.. حتي أسلم عمر..
زحزح المهاجرون غطاء بئر الرحمة في نفسه.. ولعل عمر أحس الحيرة فقرر حسم الأمر وقتل الرسول.. وذهب إليه متوشحا سيفه.. ويقابله من يقرأ سريرته فيسأله:
إلي أين؟
قال: إلي محمد لأقتله فتستريح العرب...
ويقول له الرجل ساخرا: ألا تبدأ بأهل بيتك قبل محمد...؟!
ويسأل عمر ثائرا: أهل بيتي؟!
قال الرجل: أختك وزوجها.. أسلما وأنت لا تعرف..
ويقتحم عمر بيت شقيقته وزوجها، وعندهما قارئ يقرأ القرآن.. يخبئان الصحيفة والقارئ فيسأل عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت؟
وتنكر أخته، ويتدخل زوجها فيبطش به عمر.. فتنهض المرأة للدفاع عن زوجها فيضربها عمر فيسيل دمها، ويفجر منظر الدم ينبوع الرحمة داخله.. انتهي الأمر وسقط غلاف الثمرة الجاف الذي يخفي حقيقتها العظيمة. ويتوضأ عمر- قسرا- ليسمحا له بقراءة الصحيفة القرآنية..
ويقرأ عمر.. لا ينتهي من القراءة حتي يتحسس سيفه ويمضي نحو الرسول..
اختار عمر الإسلام دون تردد.. وليكن سيفه الذي ذهب به لقتل محمد.. هو أصلب السيوف دفاعا عن محمد..
ويدق الباب علي الرسول ومعه أصحابه.. وينظر أحدهم من شق الباب فيري عمر بن الخطاب متوشحا سيفه... ويعود إلي النبي بالخبر المزعج.
هذا ابن الخطاب جاء يقصد شرا.. وينهض الرسول آمرا أن يتركوه له.. يفتح الرسول الباب ويشد عمر بن الخطاب من سيفه وثيابه سائلا إياه عما يريد.. وماذا جاء به؟ وأجاب عمر بأنه جاء يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وكبر الرسول تكبيرة عظيمة.. ها قد تحققت دعوته: اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين..
وبدأت قريش تحس الخطر بعد إسلام عمر وحمزة.. إن رءوس مكة وأعظم رجالها يسلمون.. وقبل إسلام عمر كان المسلمون يطوفون بالكعبة سرا، وعلي استحياء، فلما أسلم عمر جاهر بإسلامه وتحدي أن يعترضه أحد.. وتقاصرت الرقاب تفسح له طريقه للطواف.. وأدركت مكة أنها تواجه دعوة لا تلبث أن تقلب الأوضاع في الجزيرة العربية..