العودة للصفحة الرئيسية

وفاة أمه (آمنة بنت وهب) وبعدها وفاة جده (عبد المطلب)
وصلا إلى منتصف الطريق.. لم يعرف محمد بن عبد الله سر امتقاع وجه الأم وشحوبه.. وهبط ملك الموت في بقعة تسمي "الأبواء".. وحين غادرها كانت آمنة بنت وهب قد لحقت بالرفيق الأعلي...
ماتت الأم وتركت وحيدها مع خادم يتفتت قلبه علي طفل يفقد أباه وهو جنين، ويفقد أمه وهو ابن ست سنين... وعاد محمد بن عبد الله وحده دامع العين، باكي القلب.. قد أدرك نضجه بعد أن صهرته أحزان الحياة وقسوة اليتم..
سئل رسول الله، صلي الله عليه وسلم، بعد بعثته: ما طريقتك؟
قال: "المعرفة رأس مالي.. والعقل أصل ديني.. والحب أساسي.. وذكر الله أنيسي.. والحزن رفيقي"..
هي رفقة قديمة، بدأت من طفولته.. سقاه الله تعالي في طفولته من أنهار الحزن العميق، ليمنح الناس بعدها ثمار الخلاص والفرحة...
عاد الصبي إلي مكة محزوناً، صامتاً، فزاد جده عبد المطلب في حبه وإعزازه.. بعد عامين اثنين.. حين وصل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلي الثامنة من عمره.. مات أكبر حصن من حصونه البشرية.. مات جده عبد المطلب.. وسار الصبي وراء نعش الجد صامتاً كالكبار.. صلبا كالرجال.. تذوب رمال الطريق تحت قدميه في دموعه الصابرة المحتسبة الشجاعة.. لا نعرف لماذا حدث ما حدث..
ما حكمة الله تبارك وتعالي في حرمان آخر أنبيائه من عطف الأب، وحنان الأم، ورعاية الجد..؟ أكان الله عز وجل يريد أن يمنح آخر أنبيائه حناناً وحباً من لدنه وحده؟.. أكان الله يربيه بالحزن ويرهف مشاعره بالألم؟.. أكان الله تعالي يصنع قلب رسوله لنفسه؟
قديما قال الحق عز وجل لموسي: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )
وقديما بشَّر الله تعالي موسي في التوراة، كما بشَّر عيسي في الإنجيل، بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد.. وسأل موسي ربه أن يمن عليه وعلي أمته بذروة الفضل، فحدثه الله أنه كتب هذا الفضل لآخر أنبيائه.. أحمد.. وأمته...
إذا كان الله تعالي قد اصطنع موسي لنفسه، ورغم ذلك لم يحرمه من حنان الأم، ورباه وسط أسرته، فإنه شاء أن يحرم آخر رسله من الحنان البشري والحب البشري، والعطف البشري، ليؤثره بالحنان الإلهي، والحب الإلهي والعطف الإلهي..
يقول تعالي محدثا آخر رسله:
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَي {6} وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَي {7} وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَي {8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ {10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {11}) سورة الضحي
إن معني الآيات الحرفي، أنه كان يتيما فآواه الله.. وكان تائها فهداه الله، وكان فقيرا فأغناه الله.. استأثر الله بإيوائه وهدايته وإغنائه.. وتلك درجة من درجات الفضل لم يبلغها من العالمين أحد..