ميلاد نبى الأمة
وسط أفراح مكة بنجاتها ونجاة الكعبة... رأت آمنة بنت وهب حلما ذات ليلة..
شاهدت نفسها تقف وحدها وسط الصحراء، وقد خرج منها نور عظيم أضاء المشرق والمغرب، وامتد حتي السماء... واستيقظت آمنة من نومها فلم تعرف تفسير رؤياها.. ولم تعش حتي تعرف تفسير رؤياها..
وفي وقت السحر.. من ليلة الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول.. ولدت آمنة بنت وهب طفلها اليتيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، حفيد إسماعيل ابن إبراهيم بن آدم..
كانت الدنيا تموت عطشا إليه قبل أن يولد.. كان عطشها عظيما إلي الحب والرحمة والعدالة..
لقد مر الآن ستمائة عام علي ميلاد المسيح، وابتعد المسيحيون فيها عن تعاليم الحب، وتسللت العقائد الوثنية إلي بعض فرقهم، وشاب صفاء التوحيد دنس عظيم.. وهجر اليهود وصايا موسي وعادوا لعبادة العجل الذهب، وفضل كل واحد منهم أن يكون له عجله الذهبي الخاص..
وأغارت الوثنية علي الأرض.. كفرت بالعقل، ونسيت الله، واستسلمت لأيدي الدجالين.. وحين بدا واضحا أن قلب الدنيا قد أصيب بالجفاف، نبع من المشرق فجأة ينبوع صاف من الإيمان ارتوي منه نصف العالم.. وكانت معجزة كبرى أن يخرج هذا الينبوع الصافي من قلب أعظم الصحراوات جفافا في العالم.. صحراء الجزيرة العربية...
يقول الحديث الشريف في تصوير هذه الفترة: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم.. عربهم وعجمهم.. إلا بقايا من أهل الكتاب"..
الرمال تمتد صفراء حتى تلتقي بالأفق.. خيام مكة.. في خيمة خشنة منها يولد طفل يتيم سيصبح فيما بعد مسئولا عن إرواء عطش العالم إلي الحب والعدالة والحرية والحق..
علي مسافة خطوات من مكان مولده.. تملأ الأصنام ساحة البيت العتيق، وحول الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل لتكون بيتا لله يعبد فيه وحده، ويأمن الناس فيه وحده.. في هذا البيت القديم الذي بناه قبله آدم...
تملأ تماثيل الآلهة الحجرية والخشبية المكان كله.. دليلا يشهد علي سقوط العقل العربي وانحداره.. وبعيدا عن مكة، كانت يثرب، أو المدينة التي تمتلئ باليهود الذين جاءوها هربا من اضطهاد الرومان.. وحطوا كالذئاب علي أخصب الأرض واحتكروا تجارة المتعة، وشيدوا مستعمراتهم، مستغلين ضعف الوجود العربي وانقسامه علي نفسه.. وهو وجود كانت لديه القدرة علي التناحر والقتال أربعين عاما لأسباب تافهة..
وكان علماء اليهود يتاجرون بكل شيء.. ابتداء من الذهب وانتهاء بالتوراة، فيخفون منها أوراقا ويظهرون أوراقا، ويحرفون أوراقا، ليزدادوا ثراء علي ثراء.. وعلي حين كان اليهود يعبدون الذهب، ويجيدون التجارة، ويتفننون في المؤامرات كان العرب يعبدون الحجارة ويجيدون القتال ويتفننون في قرض الشعر وتعليقه علي أستار الكعبة.. وكان العرب يعيشون في ظل نظام القبائل المتخلف.. شيخ القبيلة هو السيد الحاكم، وقيمته تتحدد بمقدار عدد رجاله وكثرتهم وقدرتهم علي القتال.. وفضل المرء ينبع من أصله، وعصبيته هى قيمته، وفخره بالأنساب هو كرامته، والتعصب لصنم معين هو دينه.. وكانت كل قيم الشهامة والكرم والنجدة والوفاء لا تدور إلا داخل الإطار الضيق للقبيلة الواحدة، أو القبائل المتصالحة...
وبعيدا عن مكان الميلاد..
كانت "روما" تشبه نسرا عجوزا لم يفقد قوته.. وكان الرومانيون يعبدون القوة.. وإلي الشرق من شمالي بلاد العرب، كان الفرس يعبدون النار والماء..
إن النار تشتعل في معابدهم فيركع لها الناس، وهناك "بحيرة ساوة" التي تعتبر في نظرهم مقدسة.. أما "كسري" ملكهم فيجلس في إيوانه للحكم بين الناس فتمضي كلمته كالقضاء النافذ.. لا يناقشها أحد، ولا يردها أحد.. وكان الفرس قد غلبوا الروم واليونان، وصاروا أكبر القوي الموجودة في الأرض.. ورغم قوتهم فقد كانت النار التي يعبدونها تكشف عن غباء القوة حين تنخلع من عقلها وتقف عارية بغير الحق..
كان الظلام يزداد في كل بقعة من الأرض.. وتحولت الحياة إلي غابة كئيبة يضرب فيها القوي الضعيف، وينتصر فيها الشر علي الخير.. ويعبد العقل فيها قطع الحجارة، أو يعبد الخوف الذي يلقيه الطغاة في قلبه..
وفي هذا الجو.. ولد في خيام مكة طفل.. وفي نفس اللحظة التي ولد فيها هذا الطفل العربي، انطفأت النار المعبودة في معابد الفرس.. وجفت بحيرة ساوة المقدسة.. وسقطت أربع عشرة شرفة من قصر كسري، وأحس الشيطان أن ألما هائلا يمزق قلبه..
وكان هذا كله رمزا لبداية انكسار الشر في العالم.. وتحرير العقل البشري من عبادة العباد والخرافات، إلي عبادة الله وحده...
ويعتقد بعض العلماء أن هذا الكلام تعبير خاطئ عن فكرة صحيحة.. فإن ميلاد الرسول كان حقاً إيذانا بزوال الظلم واندثار عهده، مثلما كان ميلاد موسي إيذانا بتخليص بني إسرائيل من ظلم فرعون.. غير أن رسالة محمد بن عبد الله كانت أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي.. وكان جند القرآن أعدل رجال وأجرأهم علي كسر شوكة الطغاة، طاغية أثر طاغية.. فلما أحب الناس، بعد انطلاقهم من قيود العسف، تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد صلى الله عليه وسلم غني عن كل هذه كله.. فإن نصيبه من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها.. رغم إيماننا أن نصيب الرسول من الواقع المشرف يتجاوز هذه الروايات وأشباهها، إلا أن هذا لا يمنع من وقوع هذه الخوارق.
*وسوف نلاحظ في سيرة الرسول أن الخوارق أحاطت بالكعبة قبل مولده، ثم وقعت النبوءات الخارقة بعد مولده، ثم وقعت له خارقة "شق الصدر" في طفولته، وأظله الغمام في صباه، وصرف عن لهو الشباب البرئ.. وظلت عناية الله عز وجل تحرس خطاه حتي نزل عليه جبريل بالوحي.
بعدها أصبحت معجزته الأولي هي شخصيته وأفكاره.. صارت معجزته الكبري بعد القرآن.. هي هذا البناء الروحي الشامخ الذي احتمل في الله ما احتمل، وقاسي في الحق ما قاسي، وأدي أمانته بكمال لا يطاول..
وأجمل ما يقال عن معجزات النبي بعد بعثته، أنه كان بلا معجزة.. بلا معجزة سوي تحرير العقل.. بلا خوارق سوي إطلاق الفكر.. بلا دليل غير كلمات الله.
لقد دعا عيسي بن مريم إلي المساواة والأخوة والحب.. أما محمد عليه الصلاة والسلام فوفق إلي تحقيق المساواة والأخوة والحب بين المؤمنين أثناء حياته وبعدها..
وعلي حين أحيا عيسي بن مريم الموتي وأخرجهم من قبورهم.. أحيا محمد بن عبد الله الأحياء من موتهم الذي لايدركونه، وذلك أقصي أنواع الموت.. وأخرجهم من ظلمة الجهل إلي طمأنينة العلم، ومن خبل الشرك والكفر إلي علم التوحيد.
ولقد كان سليمان نبيا وملكا يشتغل الجن في خدمته ويطيرون آلاف الأميال لإحضار عروش أعدائه كي ينبهروا بقدرته فيسلموا.. أما ممحمد فكان يشتغل في خدمة الإسلام، بدرجة جندي بسيط ووديع.. وكان يعلم أنه لو غفل عن دعوته لحظة، أو استسلم جسده لإعياء الكفاح المتصل، فقد ضاعت فرصته في نشر الإسلام وتبليغ أمثالي وأمثالك من عباد الله أن يعرفوه عن جلاله ورحمته..
وفي لحظات الهول الكبري في معاركه، وكان وقت الصلاة يجئ.. فيصلي الجيش المقاتل.. لا تنزل الملائكة لتحميه أثناء الصلاة.. أو تمنع السهام عن ظهره خلال سجوده.. وإنما علي الجيش المحارب أن يحمي نفسه بنفسه.. فليصل الجيش المؤمن بالتناوب.. جزء يصلي، وجزء يقوم بمهمة الحراسة.. ثم يتبادلان المواقع.. قال تعالي في سورة النساء:
(وَإِذَا كُنتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَي لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فيمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) الآية (102)
انتهي الأمر، ولم يعد مع الجيش ملائكة لحمايته ونصره.. هذا عهد الرشد العقلي، عهد عناء الأنبياء والمؤمنين.. وعلي قدر العناء في تبليغ الإسلام، يكون الجزاء..
ولقد كان العهد بالأنبياء قبل محمد أن يقدموا معجزاتهم لقومهم عند بدء الدعوة.. ليصدقهم القوم فيما جاءوا به. أما محمد بن عبد الله فلم يقدم لقومه غير شخصه وحده.. وصدقه وحده.. وقد اقتضت عناية الله بموسي أن يرفع الجبل علي قومه ليؤمنوا بالتوراة، أو يسقط عليهم الجبل.. وسجد اليهود وقد وضعوا خدا علي الأرض وتأملوا بما بقي من وجوههم كتلة الحجارة التي رفعتها يد القدرة الخفية..
أما محمد بن عبد الله، فلم يقهر أحدا علي شيء.. آمن به من آمن عن رضا واقتناع، ومات معه من مات عن رضا واقتناع.. ولم يحمل هو السيف إلا حين اقترب السهم المسموم من قلب الإسلام وهدده.. بعدها لم يكن السيف في يد الإسلام إلا مشرط جراح يشق الجسم الإنساني إنقاذا للجسم الانساني ورحمة به ورغبة في شفائه..
ولقد كانت دعوات الأنبياء السابقين.. تقتضي ما وقع من المعجزات.. إن طفولة البشرية.. وضعف العقول.. وانطلاق الحواس.. اقتضت من رحمة الله أن يكون نوع المعجزة من نوع العصر الذي تتنزل فيه، ومن نوع الناس الذين تبعث إليهم، ولم يكن أهل مكة في ذلك الوقت عقلاء أو حكماء تكفيهم الكلمات.. وإنما جاءت الصعوبة من كون الإسلام لم يبعث لهذا العصر وحده.. إنما أنزل لكل العصور.. وكان الله يعلم أن البشرية تدخل عصر النضج العقلي.. فشاءت حكمته أن تكون أولي كلمات الرسالة(اقرأ)..
وأن تكون معجزة الرسالة هي نوعية الفكر الذي تنطوي عليه، والنظام الذي تقيمه، والتشريع الذي تضعه.. والحرية التي تحييها.. والإنسان الذي تبنيه..
وليس ينقص من قدر الأنبياء قبل محمد أنهم لم يبعثوا في عصور النضج العقلي عليهم صلوات الله وسلامه... إنما زاد في قدر محمد أنه بعث لعصر النضج العقلي.. وبعث قبل مجئ هذا العصر.. فاحتمل أضعاف ما احتمله الأنبياء.. وقاسي في الله أضعاف ما قاسوه.. وتعذب وحده بمثل ما تعذبوا جميعا، وأحب الله مثلما أحبوه وزاد.. وكرمه الله عليهم حين أمهم في الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج.. ورغم هذا كله.. خرج يوما علي صحابته فوجدهم يفاضلون بين الأنبياء ويقدمونه عليهم فغضب وجهه وتغير..
قال: "لا تفضلوني علي يونس بن متي"..
وضع بكلمته خطا فكريا يسير عليه المسلمون... ليكن الأنبياء درجات عند الله..
ليكن أن هناك أحدا أفضل من أحد.. من الذي يقرر ذلك؟.. لا أحد غير الله عز وجل، أما المسلمون فليقفوا عند حدود الأدب مع الأنبياء جميعا.. وما دام الله تعالي قد صلي علي رسولهم تكريما، وأمرهم بالصلاة عليه إجلالا.. وما دام شأن الرسول كشأن بقية الأنبياء، فليصلوا علي جميع الأنبياء بغير ما تفرقه، حتي في عبارة الصلاة..
تحرك الرضيع المولود في مكة في عام الفيل.. انطلقت الأخبار لجده أن حفيدك قد ولد.. وأسرع عبد المطلب وحمل حفيده اليتيم وراح يطوف به الكعبة وهو يفكر في تسميته.. لم تعجبه كل التسميات التي عرضت لذهنه.. وأجل اختيار اسمه يوما.. ولم يستطع في اليوم الثاني أن يهتدي لتسمية ترضيه.. وطالت حيرته ستة أيام حتي تم ختانه صلي الله عليه وسلم.. فلما جن عليه الليل جاءه نفس الهاتف القديم الذي أمره بحفر زمزم.. وهمس له أثناء نومه: اسمه مشتق من الحمد.. محمد.. أو أحمد.. سألت قريش عبد المطلب:
أي اسم ستسمي حفيدك؟ قال (وهو يذكر كلمات الهاتف):محمد..
كان الاسم غير مألوف في الجاهلية التي يعيش فيها الناس
سألوه: لماذا رغبت عن أسماء آبائك وتركت أسماء أجدادك؟
قال عبد المطلب: أردت أن يحمده الله في السماء، وأن يحمده الناس في الأرض.
لا نعرف الآن أي دوافع أملت علي عبد المطلب هذه الكلمات.. أكانت هذه الكلمات تصدر من واقع الزهو العربي الشهير؟.. أم كانت الكلمات لحظة من لحظات الصفاء الروحي واستشفاف الغيب...؟ لا نعرف.... كل ما نعرفه أن أحدا من خلق الله.. لا يستحق أن يحمده الناس في الأرض، ويحمده الله في السماء، مثلما يستحق محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه..
برز إلي الوجود يتيما، غادر أبوه الدنيا، وهو جنين في بطن أمه.. قال تعالي:
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَي)...سورة الضحي
آواه الله عز وجل.. يقول الصوفية: إن الأسباب البشرية، كوجود جده عبد المطلب وكفالته له وإيوائه إياه، ليست غير ظاهر يمكن تجاوزه، أما الباطن فهو أننا أمام بشر آواه ربه من طفولته... ورباه الحق عز وجل من طفولته.. وامتحنه باليتم وهو جنين، وبالجوع وهو صبي وكهل، وبفقدان الأم وهو طفل، وبالوحدة وسط الجماعة، وباليقظة وسط النيام، وبآلام تعقبها آلام...
وكان الحق يعده من طفولته لحمل آخر الرسالات، وأثقل الأعباء، وأفدح المغارم..