العودة للصفحة الرئيسية

كفالة عمه أبوطالب له
بعد وفاة جده، كفله عمه أبو طالب، وألقي الله محبته في قلب عمه، فقدَّمه على أبنائه وأعزه وأكرمه، وكان يجلسه على فراشه الذي يبسطه أمام الكعبة ولا يجلس عليه غيره..
وعاش محمد بن عبد الله في قلب صحراء مكة، مستيقظ القلب، صاحي الوجدان، بين قوم من الغافلين، والسكاري، وعبدة الأصنام، وتجار الخمور والشعراء والمحاربين، وشيوخ القبائل.. وجو الصحراء يزيد خمول الخامل، ويزيد حدة اليقظان.. كشعاع الشمس الذي ينمي الأشواك والورود معا..
وقد كان محمد بن عبد الله في طفولته صامتاً معظم الوقت، فلمَّا كبرت سنه زاد صمته.. كان لا يتكلم إلا إذا دعاه أحد إلى الكلام.. وكان لا يشارك الفتيان لهوهم، مدفوعاً في ذلك بحزن داخلي لا كبرياء.. إنه ينفرد بنفسه، يفتح عينيه على امتداد الرمال.. لسانه يتوقف وعقله يعمل.. يتأمل في طفولته سجود قومه للأصنام ويعجب.. كيف يسجد العاقلون لحجارة لا تضر ولا تنفع ولا تتكلم ولا تحس.. ورث من جده البعيد إبراهيم كراهيته الفطرية لعالم الأوثان والأصنام..
وانطوي داخل أعماقه على احتقار عظيم لهذه المعبودات الحجرية، احتقار جعله لا يقترب منها أبداً، غير أن قلبه الكبير كان ينطوي على حزن أعظم من حزن جده إبراهيم.. كان حزيناً لأن العقل الإنساني يعبد الحجارة والذهب والكبرياء وسلطان الحكام.. وكان يستمع إلي الناس، ويتأمل شئون الحياة وأحوال الجماعات, ويلاحظ صراع الناس على الأشياء التافهة والهالكة، فتزداد دهشته ويعمق حزنه...
ألا يعرف الناس أنهم سيموتون مثلما مات أبوه وأمه وجده...؟
لماذا يثيرون كل هذا الصراع ليكسبوا مزيدا من الشرور في النهاية؟
وكلما تقدمت به السن، وزاد زهده في الحياة، وراحت سيرته تضئ في أنحاء مكة.. إنه لا يشبه أحداً من الفتيان.. ورغم اعتقادنا في حزنه الذي يعود لأسباب عامة.. لم يكن يبدي دخيلة نفسه لأحد، ولا كان يتطلع لهداية أحد، ولا كان يقصد إصلاح حال المجتمع أو الإنسانية... صحيح أن الأسئلة تثور في ذهنه مضطربة ملحة تبحث عن جواب، لكن عقله وحده لم يكن يهتدي إلي الجواب أو الخلاص...
هذا معني الآية:
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَي} سورة الضحي
الضلال هنا يعني حيرة العقل في تفسير الشر ومقاومته، لافتقاد السلاح وصغر السن...
* ولقد أدى هذا كله بالصبي إلي مزيد من الانطواء والصمت، والابتعاد عن هراء العالم الذي ينسكب في العقول ويشوشها.. ونجا عقله من التشويش وظل علي صفاته..
بقي الصبي بمبعدة عن آثام قومه وانكفائهم علي الأصنام وحب السيادة والتفاخر.. واقترب أكثر وأكثر من جوهره النقي، فراح يؤثر غيره علي نفسه.. وامتدت رحمته إلي الناس والحيوانات والطيور.. كان إذا جلس يأكل وحط الحمام علي طعامه ترك طعامه للحمام...
وكان الناس يضربون الكلاب حين تقترب منهم وهم يأكلون، أما هو فقد كان ينتزع اللقمة من فمه ليطعمها الكلاب والقطط والأطفال والفقراء، وما أكثر الليالي التي باتها جائعا، لأنه أعطي طعامه لغيره.. وكان فقيرا لابد أن يشتغل ليأكل.. واشتغل راعيا للغنم مثل داود وموسي وغيرهما من أنبياء الله.. كان يرعي الغنم علي قراريط لأهل مكة..