حادثة شق الصدر
أصدرت المشيئة الإلهية حكمها النافذ للروح الأمين جبريل، عليه السلام، أن يهبط إلى محمد بن عبد الله، ويشق صدره بالأمر الإلهي، ويغسل قلبه بالرحمة، ويجففه بالنور.. ويستخرج حظ الدنيا منه..
خرج الرسول كعادته ذات صباح مع أخيه في الرضاع يقودان القطيع إلى المراعي، فلما انتصف النهار، أتي أخوه يعدو، فزعاً باكياً، يصيح بأن محمداً قد قُتل.. أخذه رجلان عليهما ثياب بيضاء، فأضجعاه وشقا صدره..
جن جنون حليمة.. انطلقت تعدو بكل ما تملك من قوة، يتبعها زوجها في الاتجاه الذي أرشد عنه الصبي.. فوجدا محمداً جالساً علي الأرض، وجهه ممتقع، وعيناه تلمعان.. قبلاه في رفة وأخذا يلاطفانه.. ثم سألاه: ماذا حدث....؟
قال الصبي: بينما كنت ألاحظ الأغنام وهى ترعي، فوجئت بصورتين ناصعتي البياض، ظننت أولا أنهما طائران كبيران، ثم أدركت خطئي، كانا شخصين لا أعرفهما يلبسان البياض...
قال أحدهما لصاحبه مشيرا إلى: أهذا هو؟
قال: نعم...
جمدت من الفزع، وأخذاني فأضجعاني وشقا صدري، والتمسا فيه شيئاً، فوجداه وطرحاه بعيداً، ثم التأم ما شقاه، واختفيا كأنهما شبحان...
روي الحديث أنس.. وأخرجه مسلم وأحمد.. اختلف المفسرون أمام هذه الرمزية العميقة.. يؤولها معظم العلماء.. ويرى القدماء كالقرطبي أنهما معني قوله تعالي:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)...سورة الشرح
ويري المحدثون كالغزالي، أن بشرا ممتازا كمحمد لا تدعه العناية الإلهية عرضة للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من الناس، فإذا كانت للشر موجات تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلي التقاطها وتتأثر بها، فقلوب النبيين- بتولي الله لها- لا تستقبل هذه التيارات ولا تهتز لها.. وبذلك يكون جهد المرسلين هو متابعة الترقي، لا مقاومة التدلي.. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله، صلي الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة.. قالوا: وإياك يا رسول الله.. قال: وإياي.. إلا أن الله أعانني عليه فأسلم.. فلا يأمرني إلا بخير"..
هذا موقف القدماء والمحدثين من حادث شق الصدر.. ونحسب أن لهذه الخارقة علاقة بإعداده لرحلة الإسراء والمعراج.. وهي رحلة كان على الرسول فيها أن يخترق عالم الفضاء ويرتاده،ويتجاوزه إلي عوالم السماء يرتادها.. ثم يتجاوز هذا كله صعودا حتي يصل إلى سدرة المنتهى.. عندها جنة المأوى.. يرجح هذا النظر في رأينا أن حادث شق الصدر تكرر مرة أخرى والرسول عليه الصلاة والسلام يجاوز الخمسين من عمره.. وقد جاء حادث شق الصدر الثاني ليلة أسرى به...
أخرج البخاري عن مالك بن صعصعة، أن رسول الله، صلي الله عليه وسلم، حدثهم عن ليلة أسري به فقال: بينما أنا في الحطيم- أو قال في الحجر- مضطجع بين النائم واليقظان.. أتاني آت، فشق ما بين هذه إلي هذه- يعني ثغره إلي بطنه- قال: فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد..
نحسب أن حادث شق الصدر كان تجسيدا لعصمة الرسول، وكان إعدادا لرحلة الإسراء والمعراج... وكان إعلانا إلهيا يعني أن هذا الصبي سيصل إلي مكانة لم يبلغها من قبله إنسان، ولن يبلغها بعده إنسان...
تغيرت حياة الصبي بعد حادث شق الصدر..
صارت أفضل أوقاته تمضي في التأمل والصمت.. وعرف وجهه لون الجد العذب الذي يميز وجوه كبار الرجال..
ومرت الأعوام وانتهت فترة بقائه مع حليمة في بادية بني سعد.. وكانت فترة أثرت في وجدانه تأثيراً عميقاً.. روي عن الرسول أنه كان يذكر صباه في بني سعد بالفخر، ويذكر إيثارهم وتصرفاتهم بالرضا.. قال صلي الله عليه وسلم:
" أنا من بني سعد ولا فخر... كانوا إذا جاع فيهم أحد اقتسموا الطعام فيما بينهم..".