حلم عبد المطلب بحفر بئر زمزم
حين انطفأت شموع التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، وأوشك الظلام الكثيف أن يطبق على العقل، ولم يعد هناك غير قلة قليلة من الغرباء الموحدين، شاءت رحمة الله تعالى أن تبعثه بآخر رسالات السماء إلى الأرض.. ووسط كآبة الحياة وليلها الموحش.. جاء شمس الأنبياء.. جاء استجابة لدعوة إبراهيم خليل الله.. وجاء تصديقاً لبشرى عيسى روح الله وكلمته.. يصلي عليه الله عز وجل رحمة وبركة.. وتصلي عليه الملائكة ثناءاً واستغفاراً.. ويصلي عليه المؤمنون تكريماً وتعظيماً..
قال الحق في سورة الأحزاب:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية رقم (56)
ومن قبله أرسل الله تعالي أنبياءه رحمة لقومهم.. وزمانهم.. وأرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. جاء رحمة مطلقة لقومه وزمانه.. ولمن يجئ بعدهم من الأقوام والأزمنة على تعاقب الأيام وتتالى الدهور..
قال الحق في سورة الأنبياء:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الآية رقم (107)
ولقد كان جوهر دعوات الأنبياء السابقين عليه هو الإسلام.. وكان عنوان رسالته هو الإسلام.. فتأمل أنت أي إعجاز أن يكون العنوان جوهراً.. ويكون الجوهر عمقاً بلا قاع، وقمة بلا نهاية.. ذلك هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.. وسيد أبناء آدم وعبد الله ورسوله، ورحمة الله المهداة للبشر..
- المكان: أرض الجزيرة العربية.. الدنيا ليل.. الهزيع الأخير من الليل..
تصور عبد المطلب أن الشمس قد أشرقت فجأة.. واستيقظ ليجد نفسه في جوف الليل، وقد أطبق علي الصحراء الممتدة سكون عظيم..
أزاح بيده باب الخيمة فشاهد النجوم تلمع في السماء والدنيا ليل.. وعاد يغلق باب الخيمة وينام.. لم يكد يستسلم للنعاس العميق حتي عاد الحلم إلي الظهور مرة أخري..
كان كل شيء واضحا هذه المرة.. إن كائناً عظيماً يأمره بأمر حاسم: احفر زمزم...!
سأل عبد المطلب في الحلم.. وما زمزم...؟!
وعاد الأمر يصدر إليه في الحلم: احفر زمزم...!
لم يكد آخر صدي من أصداء الأمر يختفي، حتي كان عبد المطلب قد انتصب جالسا في فراشه وقلبه يدق بعنف.. نهض عبد المطلب، وفتح باب الخيمة، واندفع إلي الصحراء العريضة.. ما معني زمزم؟.. آه .. أضاء ذهنه فجأة بنور قادم من بعيد.. زمزم..
زمزم بئر.. لابد أن تكون زمزم بئرا.. لكن لماذا يريد منه الهاتف أن يحفر بئرا؟.. ليس هناك غير جواب واحد عن هذه السؤال.. لكي يشرب منها الحجاج الذين يجيئون إلي الكعبة.. لكن أي قيمة لهذه البئر بالذات؟.. هناك آبار كثيرة يشرب منها الحجاج..
جلس عبد المطلب علي رمال الصحراء في قلب الليل، وراح يتأمل النجوم ويفكر.. كانت هناك قصص قديمة تروي عن البئر التي انفجرت تحت قدم إسماعيل عليه السلام.. وكانت هناك قصة تقول إن هذه البئر قد طمرت وانسدت بفعل الزمن.. وإن الآبار التي حفرت لم تكن في مكان هذه البئر المباركة...
أشرقت الشمس علي صحراء الجزيرة العربية، فخرج عبد المطلب علي الناس وحدثهم أنه يريد أن يحفر بئرا في ذلك المكان المحدد.. أشار بيده إلي المكان الذي حددته الرؤيا.. ورفضت قريش.. إن المكان الذي أشار إليه يقع بين صنمين من الأصنام التي يعبدها الناس. صنم اسمه "أساف".. وصنم اسمه "نائلة"..
عبثا حاول عبد المطلب أن يقنع قومه بأن يسمحوا له بحفر البئر..
كانوا يعلمون أن عبد المطلب لم يكن له سوي ولد واحد.. هو إذن رجل ليست له عصبية، وليس عنده أولاد يدافعون بالقوة عن رأي أبيهم ويحمون تصرفاته... وأيامها كان كل شيء في بلاد العرب وسط القبائل يتم عن طريق العصبيات وحماية الأهل..
انصرف عبد المطلب وهو حزين.. وقف أمام الكعبة ونذر لله نذراً.. قال: إذا ولد لي عشرة أولاد، وبلغوا مبلغ الرجال وكبروا، حتي استطاعوا حمايتي في حفر البئر، فسوف أذبح أحدهم عند الكعبة تضحيةً وقرباناً..
كان قلب السماء مفتوحاً لكلمته.. لم يكد عام واحد يمضي حتي وضعت زوجة عبد المطلب ابنها الثاني.. وكل عام يمر كانت تلد ولداً من الذكور.. حتى انتهت تسعة أعوام، وصار عبد المطلب أباً.. لعشرة أولاد.. ومرَّ الزمن وكبر الأولاد، وصاروا رجالاً..
صار عبد المطلب صاحب عصبية تمنع الأعداء عنه وتؤيده.. وحفر البئر في المكان الذي أشار إليه الهاتف.. وتهيأ للتضحية بأحد أولاده وفاء لنذره القديم..
وأجريت القرعة على أبنائه العشرة، فخرج اسم أصغر أبنائه، وكان اسمه عبد الله..
لم يكد اسمه يظهر حتى ثار الناس ثورة شديدة.. لا نترك عبد الله يذبح أبداً..
كان عبد الله أنقى إنسان في الجزيرة العربية كلها..
ولم يكن قد أغضب أحداً في حياته، أو رفع صوته على أحد، أو كشَّر في وجه أحد.. إن ابتسامته هى أرق ابتسامة في الجزيرة العربية، وروحه أصفى روح في مكة، وقلبه النبيل يشبه الجنة وسط صحراء القلوب القاسية.. ولهذا ثار الناس جميعاً حين جاءت عليه القرعة كي يذبح.. وقال شيوخ قريش ورؤساؤها: نذبح أبناءنا بدلاً منه ونفديه هو...
واستراح عبد المطلب لهذه الضغط، فأرجأ الأمر، وذهب الناس يستفتون العرافة..
قالت العرافة: كم الدية عندكم؟
أجابوا عشرة من الإبل.. قالت: ارجعوا واحضروا عشرة من الإبل، وأجروا القرعة عليها وعلى عبد الله.. فإذا جاءت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشرة، وأعيدوا القرعة، وزيدوها عشرة فعشرة حتى يرضى ربكم..
وأجريت القرعة على عبد الله وعشرة جمال عظيمة..... فجاءت عليه القرعة، فزاد عبد المطلب عشرة من الإبل على العشرة، فجاءت عليه القرعة، وظلوا يزيدون حتى وصل عدد الإبل إلى مائة... جاءت عليها القرعة أخيراً بعد عشر مرات...
وانهمرت دموع الناس فرحاً بنجاة عبد الله، وذبحت مائة ذبيحة عند الكعبة، وتركت لا يُصد عنها إنسان ولا سبع. كان عبد المطلب سعيداً بنجاة ولده عبد الله، وقرر أن يزوجه أفضل فتاة في الجزيرة العربية... وخرج به يومها من الكعبة إلي دار "وهب".. وهناك خطب له آمنة بنت وهب...
وتزوجت آمنة بنت وهب من عبد الله بن عبد المطلب، أكرم الفتيان وأحبهم في قريش!
أشعلت النيران في جبال مكة كلها ليهتدي إليها المسافرون والضيوف، احتفالا بزواج عبد الله من آمنة، وذبحت الذبائح وأطعم الناس الغرباء والفقراء والوحوش والطير.. ومكث عبد الله مع زوجته آمنة شهرين اثنين في بيت العرس.. ثم أذن مؤذن الرحيل فخرج عبد الله إلي رحلته مسافراً مع قافلة قريش التجارية إلي الشام...
وكان آخر ما شاهدته منه آمنة بنت وهب.. وجهه النبيل وهو يودعها قبل أن يرحل.. بعدها اختفى شبحه مع القافلة، وذابوا في الأفق البعيد.
وكانت آمنة بنت وهب لا تعرف أنها المرة الأخيرة.. بعد شهرين اثنين من زواجه رحل.. بعد شهر واحد من رحيله زار أخواله من قبيلة بني النجار في المدينة، وهناك وضع جسده علي الأرض ومات.. مات عبد الله بن عبد المطلب.. وعمره خمس وعشرون سنة.. انتشر خبر موته مقبضاً.. مؤلماً كالحريق.. حتي إذا وصل الخبر إلى زوجته آمنة انكفأت العروس تبكي وتنحب وتسأل سؤالاً لم تكن تعرف لحظتها جوابه: لماذا فداه الله بمائة من الإبل إذا كان قد قدر عليه الموت بعدها بقليل؟.. وتحرك في رحمها الجنين حركة خفيفة..
وعادت تبكى حين أدركت أنها حامل.. بكت مرتين مرة لنفسها، ومرة لهذا الطفل الذي مات أبوه قبل أن يولد.. ولم تكن آمنة تعرف أن هذا اليتيم الذي يتحرك في بطنها يجب أن يكون يتيماً.. يجب ألا يبقي أبوه علي قيد الحياة، سيكون هذا اليتيم مسئولاً عن حمل آلام اليتامي والمساكين والحزاني في الأرض.. ولا يعرف الرحمة إلا من ذاق الحزن وعرف الآلام..
وها هو ذا الطفل يتغذي قبل أن يولد من دماء الحزن العميق النبيل ذاته..
ومرت الأيام.. ونفد دمع الأم، وجفت عيناها،ولكن حزنها كان يشبه شجرة تنمو مع العطش... راح الحزن يكبر يوما بعد يوم..
ولم تكن تحس لدهشتها بثقل لهذا الجنين الذي تحمله في بطنها.. علي العكس، كانت تحس أنها خفيفة كهذا الحمام الذي يطوف حول الكعبة.. ولولا حزنها الذي يشدها للأرض، ما كانت هناك امرأة أسعد منها بهذا الحمل الخفيف الذي لا تشعر به، الثقيل الكريم عند رب العالمين..