انصراف المراضع عنه
*ألصقته أمه بصدرها أكثر من ذي قبل، وهى ترى انصراف المراضع المقبلات من البادية عن حضانته.. كانت التقاليد السائدة في مكة أن ترسل الأسر الشريفة أبناءها إلى البادية لانطلاق الهواء، وتوافر اللعب.. ولم تكن المرضعات يتكالبن إلا على أبناء الأغنياء..
تحول فى حياة مرضعته حليمة بعد احتضانها له
ولما كان سيد الناس فقيراً.. فقد انصرفت عنه المراضع.. لنستمع الآن إلى مرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب، وهى تحكى قصتها مع الرضيع عليه الصلاة والسلام: "كانت سنة جدباء، لم تبق لنا شيئاً، فصيرتني وزوجي في فقر مدقع.. فعزمنا على الخروج إلى مكة في رفقة نسوة من بني سعد، نلتمس جميعاً الرضعاء، ليساعدنا آباؤهم على الحياة وضرورياتها.. كانت الدابة التي أركبها من الهزال والضعف الذي سببه عدم وجود القوت، بحيث خشينا أن تقع في الريق فاقدة الحياة. ولم ننم ليلنا كله من صبينا الذي معنا، فقد راح يبكي لما يجده من ألم الجوع، ولم يكن في ثديي ولا في ثدي الناقة التي يقودها زوجي قطرة من لبن نهدئ بها جوعه. وأدركني اليأس أثناء الليل.. وتساءلت: كيف أستطيع وأنا في تلك الحالة، الزعم بأن في مقدوري القيام علي تنشئة طفل؟!.. وصلنا أخيرا إلى مكة.. وقد سبقنا إليها النسوة.. فأخذن الأطفال ماعدا واحدا فقط.. هو محمد.. كان والده قد مات.. وكانت أسرته فقيرة رغم مكانتها العليا بين سادة قريش وشرفها فيهم.. لذلك أبت النسوة احتضانه.. وامتنعت أنا وزوجي من أخذه للسبب نفسه، أعني اليتم وعدم الثراء.. غير أني في النهاية خجلت أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، فأكون فضلا عن الفشل، موضع سخريتهن.. ثم إني شعرت بعطف متوقد نحو هذا الطفل البارع الجمال، الذي سيؤذيه هواء البلدة الفاسد"..
تقول هذه القصة إنه في اللحظة التي رضع فيها كل الأطفال الذين ولدوا معه.. كان محمد بن عبد الله يرقد جائعا في فراشه الخشن بغير أن يرضعه أحد.. شاءت حكمة عليا أن يستقبل هذا الرضيع دنياه باليتم والجوع لكي يتذوق آلام اليتامي والجائعين قبل أن يحمل إليهم الخلاص فيما بعد..
تقول حليمة إنها ناقشت مع زوجها إحساسها الداخلي بأنها تريد أن تعود لأخذ هذا اليتيم الرضيع.. فقبل زوجها.. لم تدر حليمة سر رغبتها الغامضة في أن تعود.. لم تكن تعرف أن الله ألقى محبته في قلبها مثلما ألقي محبة موسى في قلب امرأة فرعون...
وإذا كان موسي قد رفض أن يرضع إلا من أمه، بعد أن حرَّم الله عليه المراضع.. كي تقر عينها ولا تحزن، فقد كان محمد بن عبد الله رضيعاً وديعاً غاية الوداعة ترفضه المرضعات ولا يرفض أحدا من الخلق..
عادت حليمة إليه، وأعلنت أنها ستحتضنه...
كان عليه الصلاة والسلام وسنان. وضعت يدها علي صدره فابتسم.. فتح عينيه، فأطلت على الدنيا براءة آدم قبل أن يمد يده للشجرة المحرمة...
قبَّلته حليمة بين عينيه وعادت به إلى رحلها.. وضعته في حجرها وألقمته ثديها الأيمن ليرضع ما شاء أن يرضع.. كانت تعلم أن ثديها جاف فقالت: ألهيه به.. وجد فيه الرضيع- ما يشبعه.. تدفق اللبن في صدرها حناناً وحباً وآية من الله.. انتهى من رضاعته فمنحته ثديها الأيسر فرفضه.. تاركاً إياه لأخيه من الرضاعة.. واتبع ذلك دائماً.. أهى حكمة عليا هذا الاكتفاء بالقليل...؟ أم أن الرضيع كان يربي نفسه على الزهد والقناعة قبل أن يربي الرجال على التضحية والرجولة...؟!
عادت حليمة إلي بادية بني سعد وهى تحمل محمد بن عبد الله...
لم تكد تعود لأرضها الجدباء، حتى انفتح لها خير الدنيا كله.. امتلأت الأرض بالخضرة بعد الجفاف... وأثمرت أشجار التمر بعد أن كانت يابسة، ودرت أثداء الحيوانات، وبارك الله فيها فامتلأت وسمنت، وأعطت أضعاف ما كانت تعطيه من اللبن...
وأدركت حليمة أن هذا الخير قد جاء مع مجئ هذا الطفل المبارك، فزاد حبها له...
ووقع زوجها أسيرا ًهو الآخر في حبه... وقال يوماً لزوجته:
تعلمين والله يا حليمة.. لقد أخذت نسمة مباركة...
وشب محمد بن عبد الله في بادية بني سعد..
تقول حليمة: "كان طفلا لا يبكي ولا يصرخ قط، إلا إذا تعرَّى"..
"وكان إذا قلق أثناء الليل ولم ينم، خرجت به من الخيمة.. ووقفت معه تحت النجوم، فيستولي عليه السرور من مشهد السماء، حتي إذا شبعت عيناه أخذ النوم بمعاقد أجفانه".
حين بلغ عامه الثاني فطم.. وأرادت أمه أن تأخذه.. ولكن حليمة لم تستطع أن تستسلم لهذا الانفصال القاسي.. فألقت بنفسها عند قدمي الأم وأخذت تقبلهما وهي تسألها أن تتركه معها حتى يشب صحيحاً في هواء البادية.. ومكث رسول الله صلي الله عليه وسلم في بادية بني سعد خمس سنوات.
وقد وقع له في هذه السنوات الخمس ما عرف فيما بعد بحادث شق الصدر..