العودة للصفحة الرئيسية

تعبده في غار حراء وزواجه من السيدة خديجة
يوماً بعد يوم.. كانت سنه تزيد.. وكان نقاؤه وصدقه يزيدان.. وفي بحار الصمت الموحشة، حيث نشر محمد بن عبد الله أشرعته البيضاء، كان لابد أن يلتقي بالحقيقة الأزلية التي التقي بها قبله كل أنبياء الله ورسله.. وأدرك محمد بن عبد الله أن لهذا الكون العظيم ربا هو خالقه.. ربا واحدا لا إله غيره.. وعبد قلبه رب العالمين قبل أن يبعثه رب العالمين إلى الناس.. وحيل بينه وبين متع الشباب البرئ أو لهوه العادي الذي لا يعتبر خطيئة في سن الشباب.. وعلي حين كان شباب مكة يتباهون بعدد الكئوس التي شربوها من الخمر، وعدد أبيات الشعر التي قالوها في النساء.. كان محمد بن عبد الله قد عثر علي نفسه، في كهف هادئ في جبل عظيم..
كانت أصفى أوقاته هى التي يقضيها في هذا الكهف...
كان يغوص بأعماق قلبه في الكون، ويفكر في عظمة أسراره ورحمة خالقه وجلاله..
وفي عامه الخامس والعشرين.. تعرف بأم المؤمنين زوجته الأولي خديجة بنت خويلد.. كانت هي في الأربعين من عمرها.. كانت سيدة ذات شرف ومال، تعمل في التجارة.. مات عنها زوجها وطمع فيها الطامعون لثروتها، وكان تبحث عن رجل يخرج بمالها إلي الشام تاجرا.. وبلغت أسماعها أخبار عديدة عن صدقه وأمانته ونقائه.. فأرسلت إليه تستأجره, وخرج في رحلته الثانية إلي الشام وعمره 25سنة.. بارك الله في رحلته فعاد بربح مضاعف لخديجة، فما تطلع إلي مالها ولا إلي جمالها، ووقف بكرامته واستغنائه موقف النبل والتجاوز.. وامتلأ قلب السيدة الكريمة بحبه.. عرضت عليه الزواج فقبل.. ووقف عمه يخطب في حفل زواجه فقال: إن محمدا لا يوزن به فتي من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً.. وفضلاً.. وعقلاً.. وإن كان في المال فقيراً، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة..
وأتاح له الزواج فرصة أكبر للتأمل والانفراد والتعبد..
ومضت به الحياة تزيد نبله رسوخاً وفضله انتشاراً، كما تزيد في عزلته واغترابه.. كان منعزلا بقلبه عن دنيا الصراع المحموم حول ماديات الحياة..
وكان مغترباً بعقله الصافي فوق دوامات الهراء الجماعي والظلام الوثني السائد.. وراحت سنه تقترب من الأربعين.. وبعد أن كان يحس الوحدة وسط الناس.. صار يفضلها بعيدا عن الناس.. إن تأملاته الماضية تباعد بينه وبين قومه...
ويظل دائب البحث حتى يهديه الله إلى غار حراء.. ويحس أن فرحته باكتشاف الغار صادقة.. أخيراً يستطيع أن يخرج من مكة.. يسير أميالا قليلة ثم يبدأ الصعود.. يظل يصعد ويصعد..
كلما ارتقى الجبل، انفسح المجال، ورق الهواء، وانكشف الحجاب، وامتدى الرؤية، وسقط الحس، وبقى حدس النبوات.. أخيرا يدخل الغار.. الصمت نائم.. والقلب يقظ.. ولا شيء يعترض الرؤية الداخلية العميقة.. ومع العزلة والسهر تولد الأفكار وتنشر أجنحتها وتحلق أولا في فضاء الغار ثم تنطلق.. لا شيء يحدها أو يعوق انطلاقها الحر..
لا نعرف أي أفكار كانت تعبر ذهن أعظم الرجال علي الأرض وهو يجلس في غار حراء شهورا متصلة.. فيم كان يفكر؟ ماذا كان يقلقه؟ أي أحلام كانت تعبر ذهنه، وأي مشاعر كانت تولد في قلبه...؟ ماذا كان إحساس الحجارة به وهو يجلس ساكنا يتحنث ويتعبد...؟ أكانت ذرات الحجارة الدائرة تتجاوب مع تسبيحه الصامت مثلما كانت ذرات الحجارة تتجاوب مع قراءة داود لكتابه "الزبور"....؟
لا نعرف علي وجه التحديد نوع الميلاد الذي كان يقع في نفسه، صلي الله عليه وسلم.. كل ما ندريه أنه لم يكن يفكر في النبوة، ولا كان يسعي لهداية الناس... ولا كان يتشوف لشيء مما يتشوف له الصوفية.. كان صوفيا.. قبل بعثته إلي الناس... ثم اختاره الحق نبيا، فهجر عزلته ونزل إلي الميدان وأمسك السلاح ودافع عن الحق حتي أسلم أنفاسه لبارئه.. في البدء يولد التصوف.. وبعده يولد الجهاد في سبيل الله.. ليس التصوف غاية أو نتيجة كما يعتقد الناس اليوم، إنما هو بداية طريق طويل، ينتهي بصاحبه إلي استخدام السلاح دفاعا عن الإنسان وكرامته...