العودة للصفحة الرئيسية

زحف أبرهة بجيشه إلى مكة
واقترب موعد ولادة آمنة.. واقترب زحف أبرهة بجيشه من مكة..
كان أبرهة حاكماً حبشياً لليمن، في الفترة التي خضعت فيها اليمن للبشر بعد طرد الحاكم الفارسي منها، وكان قد بني في اليمن كنيسة جمع لها كل أسباب الوجاهة، علي نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة, وقد رأي مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم لهذا البيت.. فلما رأي كنيسته لا تجذب إليها أحدا من العرب، صح عزمه علي هدم الكعبة ليضع الناس أمام الأمر الواقع، فلا يقصدون إلا كنيسته، وهكذا أعد جيشاً عظيماً مدججاً بالسلاح، وشق الجيش طريقه نحو الكعبة.. وكان جيش أبرهة يضم مجموعة من الفيلة العظيمة الشرسة التي يستخدمها كما نستخدم نحن الدبابات هذه الأيام.. وتسامع العرب به وبقصده.. وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم.. وكان العرب وثنيين، ورغم ذلك كان البيت موضع اعتزازهم لاعتقادهم بأنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي البيت..
واعترض مسار الجيش رجل من أشراف أهل اليمن وملوكه، اسمه ذونفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلي حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام.. فأجابه إلي ذلك من أجابه.. والتقي أبرهة بهذا الجيش، فانهزمت القلة الشجاعة أمام الكثرة الكافرة، وانكسر ذونفر وصار أسير أبرهة..
اعترض الجيش نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير، فهزمهم أبرهة وأسر نفيلا.. وقبل هذا أن يكون دليله في أرض العرب... حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف وهم يرتعشون جُبنا فقالوا له: إن البيت الذي يقصده ليس عندهم، إنما هو في مكة.. وذلك ليدفعوه عن بيتهم الوثني الذي بنوه لصنم يقال له "اللات"، وبعثوا معه من يدله علي الكعبة..
فلما كان أبرهة بين الطائف ومكة، بعث قائدا من قواده حتي انتهي إلي مكة، وهناك اغتصب أموالا من قريش وغيرهم، وكان بين ما اغتصبه مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها وصاحب بئر زمزم...
وأثار وجود رسول أبرهة في مكة حمية القبائل، وتحركت قريش، وكنانة، وهذيل، ومن كان بذلك الحرم لقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وانطلقت في الجزيرة العربية أخبار الجيش الذي لا يقهر.. وبعث أبرهة رسولاً إلي مكة، وهو يحمل رسالة تقول إن الملك لم يأت لحربهم.. وإنما جاء لهدم هذه البيت.. فإن لم يتعرضوا له، فلا حاجة له في دمائهم.. فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب فليجيئوا به إلي الملك.. والتقي رسول أبرهة بعبد المطلب.. وحدثه عن نوايا الملك. قال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا من طاقة.. هذا بيت الله الحرام.. وبيت خليله إبراهيم عليه السلام... فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه. وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفاع عنه...
فانطلق الرسول مع عبد المطلب إلى أبرهة.. كان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم.. وكانت له هيبة واحترام عظيمان.. فلما رآه أبرهة أحس بالاحترام نحوه.. وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه علي سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره، فجلس علي بساط وأجلس عبد المطلب إلي جانبه ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟
قال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي..
فلما قال ذلك، تغير وجه أبرهة، وقال لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك.. ثم قد زهدت فيك حين كلمتني.. أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟!
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل.. وللبيت رب يحميه..
قال أبرهة: لن يحميه مني..
قال عبد المطلب: أنت وذاك..
انتهي الحوار بين عبد المطلب وأبرهة.. أعطاه الملك ما اغتصبه من الإبل، وانصرف عبد المطلب إلي قريش فأخبرهم الخبر.. وأمرهم بالخروج من مكة، واللجوء إلي كهوف الجبال.
وخلت مكة من سكانها.. وخرجت آمنة بنت وهب إلي الجبال القريبة.. وهبطت الملائكة أرض الجزيرة العربية..
ووقف عبد المطلب وأمسك بحلقة باب الكعبة.. وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه.. وانهالت السياط علي الفيلة التي تتقدم جيش أبرهة.. وأمرت الملائكة الفيلة أن تجمد في مكانها، فأطاعت...
وازداد الضرب قسوة وشدة... واثاقلت الفيلة في الأرض أكثر وأكثر.. كانت ترتعش في مكانها وتصرخ.. بيد أنها رفضت أن تتحرك حركة واحدة..
وتساءل أبرهة: لماذا لا يتحرك الجيش؟.. وجاءه الجواب: إن الفيلة ترفض الحركة.. ورفع أبرهة سوطه وهبط به علي وجه محدثه، ثم خرج ثائرا ليري ماذا أصاب الفيلة..
كانت الشمس مشرقة وهو يجلس في خيمته.. فلما خرج كانت الشمس تحتجب وراء أسراب من الطيور الزاحفة.. رفع أبرهة بصره إلي السماء. خيل إليه في بداية الأمر أنه يواجه سحابة سوداء.. ثم دقق النظر، فاكتشف أنه أمام طيور تسد ضوء الشمس وتشبه السحابة في تكاثفها.. ﴿طير أبابيل﴾.. طيرا كثيرة متعاقبة، لا تبدو لها نهاية..
وزاد صراخ الفيلة ورعبها.. وسري الرعب إلي الجيش كله.. وصرخ أبرهة في جيشه أن يتجاوز الفيلة ويتقدم.. وتقدمت الطيور منقضة علي الجيش.. وانفتحت نافذة من نوافذ الجحيم، والطيور تقذف الجيش بحجارة من سجيل..
نفس الحجارة التي ألقيت علي قوم لوط..
نفس الأثر المدمر الذي يشبه أثر القنابل الذرية اليوم..
إنك تقرأ في الأسفار القديمة وصفا لما أصاب جيش أبرهة، فيخيل إليك أنك أمام طاقة مدمرة مجهولة، عرف العالم طرفا منها بعد أربعة عشر قرنا من وقوع الحادث.. تقول هذه الأسفار: إن الجيش أبيد وهلك.. انكفأ جنوده عائدين ولحمهم يتساقط في الطريق.. وأصيب أبرهة وخرجوا به ولحمه يسقط أنملة أنملة.. كان جسده يتناثر قطعا كل قطعة منها في حجم أنملة الأصبع الصغيرة.. وانشق صدره ومات.
أسدل الستار علي الجيش.. استلقت أسلحته اللامعة علي رمال الصحراء، وتناثرت أجساد الجند كعصف مأكول.. قال المفسرون "العصف المأكول" هو ورق الزرع إذا أكلته الدواب ومضغته وهضمته ثم رمت به من أسفل.
بعد ما يقرب من نصف قرن.. ستنزل في مكة سورة تقص نبأ هذا كله...
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفيلِ {1} أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ {2} وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ {3} تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ {4} فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ {5} سورة الفيل
انكسر الجيش الذي استسلمت له الجزيرة بمجرد دخوله...
أبيد تماما، وحمي رب الكعبة بيته الحرام...
لم تكن هذه الحماية تكريما لمن يعيش في البيت وقتذاك.. ولا كانت استجابة لدعاء الوثنيين وعباد الأصنام الذين يملئون ساحاته.. حمي رب البيت بيته لحكمة عليا..
كان سبحانه وتعالي يريد بهذا البيت أمرا... يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا.. ليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة.. نحو أرض حرة آمنة.. لا يهيمن عليها أحد من الخارج.. ولا تسيطر عليها حكومة أجنبية قاهرة تحاصر الدعوة.. ذلك أن هناك في بيت من بيوت مكة جنين لم يولد بعد.. أمه تحمل اسم آمنة بنت وهب... وأبوه عبد الله من سادات العرب... والطفل لم يولد بعد.. ولم يكلف بعد بالنبوة .. ولم يحمل الإسلام ثقيلا علي كاهله، ورحمة للعالمين..
ثم يجئ أبرهة يريد أن يهدم هذا كله.. دون أن يعرف هذا كله..
إن مأساة أبرهة- مع ظلمه- أنه حاول اعتراض المشيئة الإلهية.. فسحقته المشيئة الإلهية بمعجزة صامتة وخاطفة... إن طيرا كثيرة تلقي ما تحمله في أرجلها ومناقيرها من حجارة طينية.. لا صوت في السماء غير حركة الرياح الخفيفة...
ثم تهبط الحجارة الصغيرة فتفعل فعل انفجار آلاف القنابل.. أيضا بلا صوت.. كان هذا من تدبير الله لبيته ودينه ونبيه قبل أن يعلم أحد أن نبي الإسلام يتهيأ ليغادر فراشه الرحيم في بطن الأم إلي حياته القاسية علي ظهر الأرض.