الأمر الإلهي بإعلان الإسلام
نزل جبريل، عليه السلام يوما بقوله تعالي:
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)...سورة الشعراء
وهكذا جاء الأمر الإلهي بإعلان الإسلام.. انتهي الأمر والتفت حول النبي كوكبة من الفرسان العظام.. وصدر إليه أمر الحق أن يعلن عن دعوته لله.. وأن ينذر عشيرته الأقربين.. وحين فعل النبي هذا دخلت الدعوة مرحلتها الثانية علي الفور.. وبدأ اضطهاد الدعاة وتكذيبهم وتشديد الحصار عليهم. أدركت قريش أن أمر محمد أخطر من مجرد الكلام في الإلهيات، إنما هو يدعو لدين جديد، دين لا مكان فيه لأصنامهم وتماثيلهم وآلهتهم ومراكزهم الإجتماعية ومصالحهم الاقتصادية.. دين لا آلهة فيه غير الله، ولا مشرع غير الله، ولا حاكم فيه سوي الله.
دين يواجه مكة بما تكره، ويواجه أولي الأمر بما يقلق.
كان طبيعيا أن تبدأ الحرب فور إعلان الدعوة..
وقد بدأت الحرب عنيفة من جانب الكبراء والسادة. كان أول المهاجمين للإسلام سيد من سادة الكبرياء في مكة.. وهو أبو لهب.
أخرج البخاري أن رسول الله صعد علي الصفا وراح ينادي بطون قريش وقبائل مكة، فلما اجتمعوا إليه سألهم:
أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم... أكنتم مصدقي؟
قالوا: نعم.. ما جربنا عليك كذبا فقط.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
قال أبو لهب. وكان يقف بين الواقفين: تبا لك سائر اليوم.. ألهذا جمعتنا؟!
بهذا التهوين والاستهانة بدأت الحرب ضد الإسلام.. ولما كان المسلمون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فقد دافع الله عنهم في البداية، ونزلت سورة قصيرة ترد علي كلمة أبي لهب (تبا لك سائر اليوم)...
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَي عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَي نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ {4} في جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ {5}..سورة المسد
بهذه الآيات القصيرة المحكمة، دخل أبو لهب التاريخ من أقصر أبوابه وأنكرها، وارتسمت صورته إلي الأبد، في إطار من الهزؤ به وبزوجته، واستحق سخرية أجيال عديدة لم تره، ولكنها رأت صورته كما رسمها الحق عز وجل.. رجلا يعاند دعوة الحق خوفا علي مصالحه المالية أن تهتز باندثار عبادة الأوثان.. لا بأس بهذا كله.. إن ماله الذي يحافظ عليه لن يغني عنه شيئا من الله، وها هو ذا يبعث وسط نار ذات لهب، وامرأته تحمل الحطب لتزيد ناره اشتعالا.. في جيدها حبل من مسد.. رمز لانتمائها لعالم الدواب التي لا تعي.
ولقد كان معظم المعاندين للدعوة الجديدة من لون ينتمي لعالم الدواب التي لا تعي..
قال تعالي في سورة الفرقان:
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)..
ولو تأملنا اليوم ردود أفعال الكافرين والمشركين، لأحسسنا بالعجب. قال تعالي في سورة (ص):
(وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {38/4} أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)...
تأمل أنت جهل قوم يحسبون أن الأصل تعدد الألهة، ويدهشهم أن يكون هناك إله واحد. ويرون العجب في هذه القضية الفطرية الواضحة.
قال تعالي في سورة الفرقان:
(وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا {41} إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا)..
انظر إلي جرأة القوم، إذ يهزءون برسول الله.. وقد جاء ينقذهم من النار، وتخيل اطمئنانهم لآلهتهم، وتصورهم أنهم كادوا يضلون عنها لولا أن صبروا عليها..
إن صور العناد القديم والجديد واحدة.. إن الكفر والشرك والعناد تكرر نفسها لأن الشر عادة محدود الموهبة.. وإن اتسم بالمثابرة..
وهكذا يهزأ الضلال من الحق، ويسخر الجهل من العلم، وينفش الباطل ريشه الملون، ويتيه عجبا بذكائه الذي أنقذه من ترك آلهته الحجرية والخشبية والبلحية، وكانوا يصنعون الآلهة من العجوة.. ويعبدونها ثم يأكلونها ويقولون: أنقذتنا آلهتنا من الجوع. أو يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلي الله زلفي.. المسألة كلها مسألة تزلف إلي الله.
ومضت دعوة النبي. وانغرست في الأرض أشواك المشركين..
اتهموا النبي بأنه كاهن، واتهموه بالجنون، واتهموه بالسحر، واتهموه بأنه افتري ما جاء به من الحق، وأعانه عليه قوم آخرون.. وقالوا: هذه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا. وطلبوا منه معجزات من نوع معين.. أعلنوا أنهم لن يؤمنوا له حتي يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو تكون له جنة من نخيل وعنب فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا, أو يسقط السماء كما زعم عليهم قطعا من العذاب، أو يأتي بالله والملائكة يضمنون لهم صحة ما يدعو إليه.. أو يكون له بيت من ذهب، أو يصعد في السماء، ولن يؤمنوا لصعوده إذا صعد أمام أعينهم وعاد، إلا إذا أحضر إليهم كتابا يقرءونه من السماء..
ومر النبي مر الكرام علي تجريحهم له، كما أفهمهم بلطف أن ما يطلبونه من المعجزات لايتفق مع الإسلام، دعوة العقل والحرية.. أفهمهم أنه بشر رسول، جاء ينذرهم يوما لا يغني فيه والد عن ولده، ولا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا ينجي فيه من
العذاب، أن صاحب الفخامة أو السعادة كان جبارا عظيما من جبابرة الأرض، أو شيخا من شيوخ القبائل، أو حاكما في الناس، أو ملكا عليهم، أو مدعيا للألوهية فيهم..
لا يغني هذا كله شيئا يوم القيامة.. لا يدفع العذاب.. ولا يخففه.
وبدأ الإسلام- ككل الأديان قبله- يجمع حوله طائفة العقلاء والفقراء والحزاني في الأرض، آمن عديد من الفقراء الذين وضعهم النظام الاجتماعي في مكة عند سفح المجتمع لتستغلهم الطبقات الظالمة، ولم يكن الإسلام يقدم حلا اقتصاديا لمأساة الحياة أو المجتمع فحسب، إنما كان يقدم حلا إلهيا لمشكلة الوجود الإنساني بشكل عام.. وكان الإسلام يؤمن أن الإنسان ليس مجرد معدة تريد أن تمتليء، وجسد يريد أن يكتسي، وغريزة جنسية تريد أن ترتوي، ليس الإنسان هذا فحسب.. وضع الإسلام الإنسان في مكانه الحقيقي دون تكبير أو تصغير... معدة وجسدا، وغريزة وروحا، وطموحا وعقلا، وقبسا من الله في الروح..
ليس أعقد من تركيب الجسد الإنساني، وليس أعقد من تركيب الروح الإنساني..
وأحيانا يتقلب الجسد في نعيم الحياة، بينما تشقي الروح أشد الشقاء. وإشباع جانب واحد من جوانب الإنسان لا يؤدي إلي الكمال أو السعادة.. ولهذا بدأ الإسلام حل مشكلة الإنسان من داخله.. ووقع عبء هذا التغيير علي القرآن، كان القرآن يتحول إلي الحياة كل يوم.. كانت آياته تتنزل علي الرسول، فيعلمها الرسول للمسلمين، ويتحول القرآن إلي رجال كثيرين يسيرون في الأسواق ويهددون عرش الكراهية الذي كان يحكم مكة..
وزادت ضراوة المشركين في السخرية والتجريح والاستهانة.. وحزن الرسول، عليه الصلاة والسلام.. وواساه الله تعالي، وأفهمه أنهم لا يكذبونه.. ولكنهم ظلموا أنفسهم ابتداء وجحدوا آيات الله.. وليس النبي غير آية من آيات الله..
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)..