العودة للصفحة الرئيسية

سفره إلى الشام مع عمه أبوطالب ولقائه بالراهب (بحيرا)
ثم سافر في قافلة عمه "أبو طالب" إلي الشام وعمره 13سنة.. ونظر في أحوال الأمم الأخري، فزادت دهشته لهذه الجاهلية.. وكلما شاهد الناس يتخبطون زاد حزنه ورق قلبه واشتد تفكيره عمقا.. وفي هذه الرحلة إلي الشام، وقع للصبي حادث، أغلب الظن أنه زاده حيرة علي حيرة..
كان الراهب "بحيرا" يقف في نافذة الدير الذي يتعبد فيه في سوريا حين استلفتت نظره سحابة بيضاء من الغيم، تعترض- علي خلاف العادة- زرقة السماء الصافية، وكان الجو صحوا، فبدت هذه الغيمة مثيرة للدهشة.... وهبط نظر بحيرا من السماء إلي الأرض، فوجد السحابة التي تشبه طائرا أبيض، تحلق فوق قافلة صغيرة تتجه نحو الشمال.. ولاحظ بحيرا أن السحابة تتبع القافلة.. وحين أناخت القافلة لتستريح أسفل الدير، ولجأت إلي الظل.. تبخرت السحابة..
دق قلب الراهب بعنف.. يعلم من أوراقه المسيحية الصادقة أن نبيا سيخرج إلي الدنيا بعد عيسي.. نبيا تذكر الأوراق القديمة صفته وتبشر به..
ترك بحيرا مكانه، وأسرع يأمر باعداد طعام كثير، ثم أرسل إلي القافلة رسولا يدعوها إلي تناول الطعام.. عاد الرسول يرافقه المكيون إلي بحيرا..
قال أحدهم مازحا مع بحيرا: وحق اللات والعزي، إن لك يا بحيرا لشأنا اليوم. ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بكم كثيرا.. فما شأنك اليوم؟
أجاب بحيرا: أنتم ضيوفي اليوم..
مر علي سؤال الأعرابي بغير أن يجيبه عنه أو يكشف له سر هذا الكرم المفاجئ..
ووفد ضيوفه فراح يطعمهم ويتأمل فيهم باحثاً عن العلامات التي قرأها في أوراقه للرسول المنتظر، فلم يعثر علي شيء.. سألهم: يا معشر قريش.. هل تخلف منكم أحد عن دعوتي؟ قالوا:نعم..تخلف منا واحد فقط.. تركناه لحداثة سنه..
قال بحيرا: لقد دعوتكم جميعا.. ادعوه فليحضر هذا الطعام..
قال رجل من قريش: واللات والعزي إنه للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام دعينا إليه.
اعتذر عمه بأن محمدا لم يزل صبيا، ثم قام بعضهم فأحضره.. لم يكد بحيرا ينظر في صفاء العينين ويغوص في حزنهما النبيل، حتي أدرك أنه يقترب من هدفه..ظل صامتا يرقب محمد بن عبد الله حتي أكل القوم وتفرقوا وجلس محمد بن عبد الله وحده...
قام إليه بحيرا.. قال: ياغلام.. أسألك بحق اللات والعزي أن تخبرني عما أسألك عنه...
كان بحيرا يريد أن يعرف موقف هذا الصبي من أوثان قومه وأصنامهم.
أجاب الصبي: لا تسألني باللات والعزي شيئا.. فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما..
قال بحيرا: أسألك إذن بالله؟
قال الصبي: سل ما بدا لك..
راح بحيرا يسأل الصبي عن أسرته ومكانته في قومه وأحلامه وآرائه.. وكان الحوار يجري بعيدا عن القوم.. فإنهم ما كانوا يسكتون عنه لو صرح ببغضه لأصنامهم..
وجاءت الإجابات مؤكدة ليقين الراهب أنه يجس أمام النبي الذي بشَّر به نبيه عيسي كما بشر به نبي بني إسرائيل موسي...
بعدها ترك الصبي ونهض إلي أبي طالب...
سأله: ما هذا الغلام منك؟
قال أبو طالب: إنه ابني..
قال بحيرا: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا..
قال أبو طالب: إنه ابن أخي.. مات أبوه وأمه حبلي به..
قال بحيرا: صدقت.. ارجع به إلي بلدك واحذر عليه اليهود..
تساءل أبو طالب عن السر فيما يقوله الراهب.. أدرك الراهب أنه تحدث أكثر ما ينبغي فقال: سيكون له شأن...
لم يفصح أكثر.. ولم يحدد هذا الشأن.. ومر الحادث بغير أن يعلق بذهن أحد، أو يستلفت انتباه أحد..
لم تترك هذه القصة أثرا في القافلة أو في النبي عليه الصلاة والسلام. اعتبرت القافلة أن تكريم الراهب لمحمد بن عبد الله وتنبؤه له بشأن عظيم.. هما من قبيل المجاملة التي تقال علي موائد الطعام، حين يمتدح الضيوف كرم مضيفهم، ويمتدح الداعي أخلاق فتيانهم.. ويتنبأ لهم بالنجاح.. لم تخلف القصة أثرا.. فلا محمد، عليه الصلاة والسلام، فهم من كلام الراهب الغامض شيئا محددا، ولا أصحاب القافلة تناقلوا هذا الحديث أو أشاعوه...
طوي الحادث وإن زاد حيرة محمد.. ما الذي بينه وبين اليهود ليحذر الراهب عمه منهم..؟ ثم ما هذا الشأن الذي تنبأ به الراهب...؟ ما علاقة هذا كله بأحزانه العميقة وحيرته..؟ طافت الأسئلة قليلا حول ذهنه ثم غاصت خارج منطقة الرؤية...
وعادت القافلة عودة طبيعية إلي مكة.. وعاد محمد بن عبد الله إلي انفراده بنفسه، وتأمله في أحوال الكون، وشقائه ليكسب لقمة عيشه، وخدمته العفوية للناس، وإيثاره لهم علي نفسه.. عاد إلي هذا كله في صمت وسكينة..
يوما بعد يوم.. كان يفيض بالثقة والرحمة والأمانة والحب.. مثلما يفيض المصباح بالنور.. اشتهر بين قومه بالأمانة والصدق. ولم يكن صدقه أو أمانته موضع شك أو بحث لدي أهل مكة.. وحين جاء برسالته بعد ذلك بسنوات طوال ووقف ضده المجتمع كله، وانقلب عليه الملأ من قومه.. لم يجرؤ أحدهم أن ينال من أمانته وصدقه.. إنما ادعوا أنه مسحور أو فقد وعيه.. وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة.. حين تم الاتفاق علي قتله وتفريق دمه بين القبائل.. حاصروا بيته لاغتياله، في هذه الساعات الحرجة.. قرر الهجرة.. ولكنه أوصي علي بن أبي طالب- ابن عمه- أن يبقي في بيته ليرد جميع الأمانات- التي أودعها عنده أعداؤه وأصدقاؤه إلي أصحابها في الصباح.. فتأمل كيف استأمنه الأعداء علي أموالهم، واثقين من حفاظه عليها...