العودة للصفحة الرئيسية

مرضه عليه الصلاة والسلام
قالت عائشة لأطفال يتصايحون ويلعبون خارج الدار:
- اصمتوا فإن رسول الله مريض..
هدأ الأطفال وشعروا بخوف مفاجئ.. في الأيام الأخيرة لاحظوا أن رسول الله لا يلاعبهم كما كان يفعل، لاحظوا أن شحوبا غريبا يكسو وجه النبي الذي كان يبتسم فيضئ وجهه كصفحة الذهب..
دخل آخر الأنبياء إلي بيته وقدماه لا تكادان تحملانه.. دخل بيته وهو يستند إلي ذراعي الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب.. كان يحس التعب والمرض..
انتهي الأمر واستسلم الجسد العظيم لرقدة الفراش وأوجاع المرض ونذر النهاية..
أرقدته عائشة علي فراشه الخشن، ووضعت يدها علي جبينه.. كان رأسه يلتهب من الحمي.. قالت عائشة وعيناها تلمعان بالدمع:
- بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. هل تحس ألما؟
ابتسم النبي ليطمئنها واستسلم للنعاس..
وانساب في ذاكرة النبي تيار من الصور الحية..
مر أمام العقل موكب الذكريات..
ها هو ذا الروح الأمين جبريل عليه السلام يتنزل عليه بالوحي في غار حراء..
مرت علي اللحظة المباركة ثلاث وعشرون سنة، تبدو الآن مثل حلم خاطف..حتي الأعوام الأربعون التي سبقتها تبدو كأنها صورة لم تستغرق من الوقت غير لحظة..
هان كل شيء في الله، واحتمل احتمالا أضعاف طاقته فلم يستسلم يوما للشكاة.
وأعطي توهج العقيدة لأتباعها قوة بغير حد، وتجربة بلا نهاية.. أخيرا عز الإسلام وارتفعت رايته.. فحمدا لله..
أغفي النبي قليلا.. ثم استيقظ علي صوت بكاء مكتوم لعائشة.. فتح عينيه ونظر في وجهها وقاوم إحساسه بالصداع والحمي والألم، وابتسم يطمئنها وعاد يغمض عينيه ويستسلم للإغفاء...
ما الذي يبكي عائشة..؟
ألم يتوج الله جهاده الشاق بقتح مكة وتطهير البيت الحرام..؟
تداعت الصور حية طرية في ذاكرته، صلي الله عليه وسلم..
تذكر ما كان من أمر قريش حين نقضت معاهدة الحديبية، وقاتلت خزاعة وهي مع المسلمين في حلف واحد، ووصل الأمر بقريش إلي حد قتل حلفاء المسلمين في البيت الحرام.. وطارت الأنباء للرسول..
وسار، صلي الله عليه وسلم في جيش عدد جنده عشرة آلاف.. كان الجيش مهيبا، وجند المسلمين ينحدر من جبال مكة كسيل لا يقف في طريقه شيء.
مرت الفرق والكتائب والسرايا..
فرقة بعد فرقة.. وكتيبة بعد كتيبة، وسرية بعد أخري.. مر حملة السهام والسيوف والفرسان.. مر رسول الله في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار..
لا شيء يظهر منهم غير حدقات العيون، وبقية الأجساد مغطاة بالدروع والسلاح..
ولمعت سيوف الإسلام بما يمثله من حق يستند إلي القوة..
ووسط هذا الجيش العظيم الذي فتح مكة، كان النبي صلي الله عليه وسلم، يركب ناقته وقد حني رأسه خشوعا لله وتواضعا حتي كاد رأسه يمس ظهر البعير الذي يركبه..
وانفتحت أبواب مكة لهذا الجيش.. استسلم سادتها وأتباعهم، ارتفعت كلمة الله فيها.. ودخل النبي البيت الحرام فطاف حول الكعبة، وهو يكسر الأصنام المصفوفة حولها.. ويضربها بقوسه ظهرا لبطن..
وانكفأت الأصنام علي وجوهها وانكبت علي الأرض.. أمر بالكعبة ففتحت.. رأي الصور تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام.. قال ساخطا علي التهمة التي ألصقها المشركون بإبراهيم وإسماعيل:قاتلهم الله.. والله ما استقسما بها قط..
ومحا ذلك كله.. حتي إذا طهر المسجد من الأوثان وأعاده كما خلقه الله بيتا للتوحيد المطلق.. التفت إلي قريش وعفا عنهم ودعاهم إلي الله، ثم حان وقت الصلاة، وصعد بلال فوق ظهر الكعبة وأذن للصلاة..
واستمع أهل مكة لهذا النداء الجديد يتردد صداه بين الجبال:
الله أكبر* الله أكبر* الله أكبر* الله أكبر* أشهد أن لا إله إلا الله* أشهد أن لا إله إلا الله* أشهد أن محمدا رسول الله*أشهد أن محمدا رسول الله* حي علي الصلاة* حي علي الصلاة* حي علي الفلاح* حي علي الفلاح* الله أكبر* الله أكبر* لا إله إلا الله*
أخيرا عادت للبيت حرمته وكرامته.. عاد تيار الصور ينساب في ذاكرته..
ها هي ذي معركة حنين بهزائمها وانتصاراتها وغنائمها.. ها هو ذا النبي يعطي الغنائم من التحق بالإسلام من يومين من أهل مكة، ويحرم من أعطي الإسلام كل شيء كالأنصار..
حرم رسول الله الأنصار جميعا من غنائم حنين، وقال قائل منهم:
- لقي والله رسول الله قومه..
ومشي سعد بن عبادة إلي رسول الله فأخبره أن الأنصار غاضبون..
سأل الرسول: فيم؟
قال سعد: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن لهم من ذلك شيء.
سأل رسول الله سعد بن عبادة: فأين أنت من ذلك يا سعد؟
قال سعد: ما أنا إلا امرؤ من قومي..
قال رسول الله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة.. فإذا اجتمعوا فأعلمني..
وجمع سعد الأنصار جميعا وأنبأ الرسول أنه جمعهم..
وخرج إليهم رسول الله ووقف يتكلم فيهم..
حمد الله وأثني عليه ثم قال:

  1. يا معشر الأنصار ألم آتكم ضالين فهداكم الله، وفقراء فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟

قالوا: بلي
قال رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟
قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك..؟ المن لله ورسوله.
قال رسول الله: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا مطاردا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك.
قالوأ: المن لله ورسوله.
قال رسول الله: أغضبتم يا معشر الأنصار لمال أعطيته قوما لأحببهم في الإيمان، وتركتكم إلي ما قسم الله لكم من الإسلام..؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلي رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلي رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا طريقا وسلكت الأنصار طريقا لسلكت طريق الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار.
اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار..
ويبكي القوم حتي تبتل لحاهم ويقولون:رضينا بالله ربا،ورسوله قسما..
وينصرف النبي فينصرفون راضين.. أكان درس الأنصار إشارة إلي عطاء المسلمين الدائم، وعدم توقعهم للجزاء في هذا الأرض..؟
لقد فهم الأنصار أن المسلم الحقيقي في الدنيا.. هو من يجئ إلي الدنيا ليعطي لا ليأخذ.