العودة للصفحة الرئيسية

صلح الحديبية والآثار المترتبة عليه
كان النبي في طريقه لأداء العمرة، وزيارة البيت الحرام..
خرج في ألف وأربعمائة رجل يقصدون البيت الحرام لأداء العمرة.. فلما وصلوا إلي الحديبية أسفل مكة، وبركت ناقة النبي، صلي الله عليه سلم، رفضت أن تتقدم خطوة نحو مكة، وقال الناس: حرنت القصواء.
قال النبي: ما حرنت، وما هو لها بخلق.. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة.. لا تدعوني قريش اليوم إلي خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها..
وأمر الناس أن يستقروا في الحديبية، وأناخ المسلمون علي أمل أن يدخلوا مكة في الصباح، كان الشهر حراما.. وقررت مكة ألا يدخلها مسلم.. خرجت قريش كلها لقتال المسلمين.. أرسلوا رسلهم إلي النبي فأفهمهم أنه لم يأت مقاتلا، وإنما جاء معتمرا يؤدي الشكر لله تعالي ويعظم حرمات بيته الحرام.. وقررت مكة عقد معاهدة مع المسلمين يرحلون بمقتضاها هذا العام، ولا يدخلون البيت الحرام، علي أن يعودوا بعد عامهم هذا.. وجاء مفاوض قريش فاستقبله الرسول واستمع منه إلي شروط المعاهدة التي يتم بموجبها الصلح وانسحاب المسلمين.. ووافق النبي علي الشروط كلها. . وكانت الشروط تبدو في غير صالح المسلمين..
كانت تبدو تراجعا سياسيا وعسكريا من المسلمين...
وزاد في دهشة المسلمين أن الرسول لم يستشر أحدا من رجاله في هذا الأمر، ولم تكن هذه عادته.. شاهدوه يذهب في ملاينة المشركين إلي أبعد حد، وحين لم يعد باقيا غير كتابة المعاهدة والتوقيع عليها.. تحرك المسلمون يعارضون رسول الله، صلي الله عليه وسلم.. سألوه: ألست رسول الله؟.. ألسنا مسلمين؟.. أليس أعداؤنا مشركين؟.. وأجاب النبي بالإيجاب علي هذا كله.. وعاد عمر بن الخطاب يسأل: فعلام نعطي الدنية في ديننا..؟
أراد التعبير أن يقول له بلغة عصرنا... لماذا نتراجع إذا كنا علي الحق؟.. لماذا ننزل علي شروط معاهدة جائزة تبدو في صالح المشركين؟ هل نحن خائفون منهم؟.. لماذا ننزل علي شروط الهدنة إذن؟
وكان رد الرسول غريبا علي آذان القوم.. قال: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني..
إن معني كلمته.. أطيعوا ما أفعل بغير مناقشة، واصبروا قليلا.. ولقد أثبتت الأيام، أن المعاهدة التي أثارت كل هذا الصراع، كانت أخطر انتصار سياسي حققه المسملون... كانت صراعا سياسيا بين ذكاء قريش وحكمة النبي..
ولقد ركزت قريش كل ذكائها ليعود المسلمون فلا يدخلوا المسجد الحرام هذا العام، بينما امتدت حكمة النبي لتري مالا يراه القوم من أيام المستقبل.. ولئن بدت المعاهدة هزيمة للمسلمين الآن، ولئن ظهرت استسلاما لشروط قريش، فإنها ستصبح بعد أشهر قليلة شيئا آخر تماما..
كان سهيل بن عمرو هو ممثل قريش..
وكان علي بن أبي طالب هو كاتب المعاهدة من قبل النبي..
قال رسول الله لعلي: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم..
قال ممثل قريش: لا أعرف هذا، اكتب باسمك اللهم..
قال رسول الله لعلي: اكتب باسمك اللهم..
إن تعنت ممثل قريش لا يعني شيئا، وليس هناك فارق بين باسمك اللهم.. وبسم الله الرحمن الرحيم، غير نية القائل..
قال النبي لعلي: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، سهيل بن عمرو..
قال سهيل معترضا: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك.. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك..
قال النبي لعلي: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو..
هذا هو التراجع الثاني كما يبدو للنظرة السريعة.. غير أن النبي يريد أن يحقق هدفا ما. هدفا لم يكشف الستار عنه بعد، ولن يكشف عنه الآن... إن الأمر كله يمضي بإلهام من الله.. وعاد علي يكتب: إن محمد بن عبد الله، وسهيل بن عمرو اصطلحا علي وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.. علي أنه من أسلم من قريش وجاء إلي محمد بغير إذن وليه.. رده المسلمون إلي قريش، ومن عاد إلي دين آبائه ممن مع محمد لم ترده قريش إلي النبي..
كان هذا الشرط موجعا للمسلمين.. إن قريشا تفرض شروطها الجائرة في المعاهدة..
ومضي علي يكتب... إن بين المسلمين وقريش صدورا تنطوي علي ما فيها، ورغم ذلك فلا سرقة ولا خيانة، ومن أحب أن يدخل في عقد محمد دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.. وإن علي النبي أن يرجع عن مكة عامه هذا فلا يدخلها، فإذا كان العام القادم خرجت قريش منها فدخلها معتمرا ثلاثة أيام.. بعدها يرحل عنها..
كانت شروط المعاهدة قاسية علي المسلمين.. كانت تبدو تراجعا غير مفهوم..
ووقع أثناء المعاهدة حادث زاد من ألم المسلمين ودهشتهم.. لجأ إلي المسلمين ابن ممثل قريش في توقيع المعاهدة.. أسلم وجاء لاجئا إلي المسلمين، ونهض إليه أبوه سهيل يضربه ويرده إلي قومه.. واستغاث المسلم المهاجر بالمسلمين أن ينقذوه من قريش حتي لا يفتنوه في دينه، وحدثه رسول الله أن يصبر ويحتسب، فإن الله جاعل له ولمن معه فرجا ومخرجا، أفهمه النبي أنه قد عقد بينه وبين قريش صلحا، وأعطوا عهد الله علي ذلك، وأن المسلمين لا يغدرون بعهدهم.. وأعيد الابن المسلم إلي مكة مخذولا..
وتم توقيع المعاهدة من جانب المسلمين والمشركين.. وقام الرسول بعد توقيع المعاهدة يأمر أصحابه أن ينحروا ويحلقوا للتحلل من عمرتهم والعودة إلي المدينة.. فلم يقم منهم رجل..
كرر أمره ثلاث مرات وسط مسلمين واجمين من فرط الهم والذهول.. ثم نحر بدنة ودعا حالقه فحلق ولم يكلم أحدا من المسلمين.. فلما رأي المسلمون أنه غاضب وقد سبقهم بالتحلل من عمرته، نهضوا ينحرون وَيَحْلِق بعضهم رءوس بعض، وقد كادوا يقتل بعضهم بعضا من فرط الغم..
ثم أثبتت الأيام أن المعاهدة علي العكس مما تصوره المسلمون..
كانت انتصارا ولم تكن هزيمة.. كانت فتحا ولم تكن استسلاما.. لقد تهاوي اتحاد الكفار في الجزيرة منذ تم توقيع المعاهدة.. كانت قريش تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التحدي للإسلام، فلما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين، خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة..
وعلي حين توقف نشاط قريش.. انطلق نشاط المسلمين وراحوا يجذبون إليهم كل من يملك قدرة علي رؤية الحقيقة..
وقد دخل في الإسلام خلال عامين من توقيع المعاهدة أضعاف أضعاف من دخلوه قبلها.. والدليل علي ذلك أن الرسول خرج إلي الحديبية في ألف وأربعمائة مسلم، ثم خرج عام فتح مكة في عشرة آلاف مسلم.. ولقد كان فتح مكة بعد توقيع المعاهدة بعامين.. زاد فيهما المسلمون كل هذه الزيادة الهائلة بسبب حكمة النبي وبعد نظره..
وخرج النبي من صراعه السياسي منتصرا.. وانقلبت الشروط الظالمة للمسلمين إلي شروط ضد قريش..
من كفر من المسلمين وذهب إلي قريش فليحفظوا به، فقد أغني الله الإسلام عنه..
ومن أسلم من الكفار وذهب إلي المسلمين فليردوه إلي قريش، حيث يبقي فيها عينا للمسلمين، أو يهرب من قريش لتأليف فرقة مقاتلة صغيرة يقطع بها الطريق علي القبائل ويعيش كالشوكة في جنب قريش..
ولا تكاد الأيام تمضي حتي ترسل إلي النبي ترجو منه أن يؤوي إليه من أسلم من قريش، وبدلا من تركهم هكذا سهاما طائرة نحو قريش.
وهكذا نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتا، وقبله النبي راضيا..
مكنت المعاهدة النبي، صلي الله عليه وسلم، من كف قريش عنه، ليتفرغ لمن بقي من اليهود في الجزيرة العربية.. وكان اليهود لا يتوقفون عن غدرهم وكيدهم للإسلام، فأعطت الهدنة بين المسلمين والمشركين فرصة عظمي للإسلام كي يواجه كيد اليهود وغدرهم..
وبدأت سلسلة المعارك التي انتهت بكسر شوكة اليهود وإجلائهم.. ثم تنازلت قريش عن المعاهدة حين اكتشفت أنها كانت شركا سيقوا إليه دون أن يدركوا..