غزوة أحد
في معركة أحد.. كان عدد المشركين ثلاثة آلاف.. وكان عدد المسلمين سبعمائة بعد أن انسحب منهم رأس النفاق عبد الله بن أبي.. وعسكر المسلمون جاعلين ظهرهم إلي الجبل.. ورسم النبي صلي الله عليه وسلم خطة لكسب المعركة، فوزع الرماة لحماية ظهر المسلمين ووضعهم علي الجبل.. وأمرهم أن يدفعوا الخيل عن جيش المسلمين بالسهام، حتي لا يهاجم المسلمون من الخلف..
وأفهم الرسول هؤلاء الرماة أن يثبتوا في أماكنهم مهما يكن سير المعركة. ليكن النصر أو الهزيمة للمسلمين، هذا أمر لا يعني الرماة.. عليهم أن يلزموا أماكنهم لتأمين ظهر المسلمين. قال صلي الله عليه وسلم: "احموا ظهورنا. إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا".
بعد هذا التأمين الحكيم لظهر الجيش، انصرف النبي إلي مقدمة جيشه، وبدأ يرسم لقلب الهجوم مهمته وأسلوبه وواجباته.
وبدأت الحرب. واندفع جند الإسلام كإعصار يخترق قلب ثلاثة آلاف مشرك.
وأظهرت المراحل الأولي من سير القتال اكتساح المسلمين للمشركين. قاتل جيش مكة قتالا يائسا، وكان متفوقا في العدد أربعة أضعاف، ورغم التفوق العددي والتسليح، فوجئ الجيش بأن المسلمين يقاتلون قتالا لا سبيل معه لنصر أو صمود أمامهم.
وبدأ غبار المعركة يسفر عن تمزق جيش مكة وبداية فراره.
وفكر الرماة الذين وضعهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في الغنائم.. لقد انهزم جيش مكة، وبدأ يعطي ظهره للمسلمين ويعدو.. ماذا لو نزل الرماة من أماكنهم لجمع الأسلاب والغنائم؟ لقد حذرهم الرسول من مغادرة أماكنهم مهما تكن الأسباب.. وعصي الرماة القائد الأعلي بعد أن تصوروا أن المعركة قد انتهت لصالح جيش المدينة المؤمن.
ظن الرماة أن الله سيستر خطأهم ويحمي ظهورهم حتي ينتهوا من أخذ الأسلاب والغنائم. انسحب التجرد من قلوب بعض الجنود..
لم يكد هذا الأمر يقع.. حتي وقع تحول خاطف في سير المعركة.
كان قائد فرسان المشركين في معركة أحد هو خالد بن الوليد.. سيف الله العظيم فيما بعد.. وأحد المسلمين الكبار فيما بعد.. وخالد بن الوليد عبقرية عسكرية من نوع نادر.. لم يكد يلاحظ نزول الرماة من أماكنهم، حتي رأي ظهر المسلمين مكشوفا، فاستدار بالخيل وانحدر علي المسلمين من حيث لا يتوقعون.
وانحدرت ضربة خالد عنيفة مفاجئة. واغتنم المشركون الفرصة فانكفئوا من الفرار إلي الهجوم. وحوصر جيش المسلمين بين فرسان يضربونه في ظهره.. وفرسان يضربونه في صدره. وارتفع عدد القتلي في جيش محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم.
استشهد كثيرون وهم يدافعون عن النبي ويحاولون حمايته. وأصيب النبي فانكسر أنفه وتحطمت رباعيته. وأصاب رأسه الشريف جرح فتفجر منه الدم.. وانطلقت الشائعات بأن محمدا قد قتل.. وأثقل أيدي المسلمين حزن غامر لما يسمعونه.. وتفرق المسلمون فعاد بعضهم إلي المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل وثبت حول النبي أكرم جنده.. وصرخ أنس ابن النضر حين سمع عن موت النبي قائلا لقومه: قوموا فموتوا علي ما مات عليه.. ما تصنعون بالحياة بعده؟!
وراح جيش المسلمين يتماسك ويقاتل.. واشتد ضغط المشركين علي النبي وصحابته وجنده. ومرت ساعات من أحرج ساعات التاريخ.. وصاح النبي وهو يري انحدار المشركين عليه وإرهاقهم له ومحاولتهم قتله: من يردهم عني وله الجنة؟
والتف المسلمون حول رسولهم واستشهد منهم خلق كثير، وصنع أبو دجانة من ظهره درعا يقي بها ظهر النبي صلي الله عليه وسلم.. فكانت السهام تقع في جسده وهو ثابت يدافع عن الرسول.
وانقلب الموقف نتيجة لهذا القتال الباسل الذي أداره المسلمون. واكتفي جيش مكة بما حصل عليه وآثر الانسحاب، ولم تكن قريش أقل من المسلمين معاناة لأهوال هذا اليوم.
أسفرت المعركة عن انسحاب المشركين بعد أن قتلوا عديدا من المسلمين وجرحوا قائد الجيش الأعلي صلي الله عليه وسلم.
وقع هذا كله بسبب خطأ واحد. تمثل هذا الخطأ في عصيان الرماة لأمر الرسول، ومغادرتهم لأماكنهم.
حين قلت نسبة التجرد والفداء في قلوب المسلمين.. دفع أشجع الرجال وأفضلهم من دمائهم ثمن هذا الخطأ. لم تحاب السماء أحدا من المسلمين. لم تتدخل السماء لإنقاذ ظهر الجيش الإسلامي المكشوف.
أخطأ المسلمون فدفع رسولهم ثمن خطئهم.
أصيب في وجهه، ونزف الدم بغزارة من جراحه، كلما سكب الماء علي الجرح ازداد تدفقا. لم يتوقف النزيف إلا بعد أن أحرقت قطعة من حصير فألصقت به.
لم تكن كل جراح النبي مادية.. زادت الجراح المعنوية في ألمه صلي الله عليه وسلم.
أصيب في أعز أهله إلي قلبه ،استشهد عمه حمزة وجاءت إمرأة أبي سفيان فشقت بطنه واستخرجت كبده ومضغتها بفمها.
مثلت قريش بجيش المسلمين.. وأصابت منهم ما تحب، ولولا رحمة الله تعالي لا نهزم المسلمون. ونزلت آيات الكتاب الحكيم تربي المسلمين علي التجرد المطلق والإخلاص الكامل، وتفهمهم أن هزيمتهم نبعت لأن جيشهم كان يضم من يريد الدنيا، رغم أن فيه من يريد الآخرة، وليس هذا هو الطريق للنصر..ليس هذا هو الأمل المتوقع من جيش المسلمين ،المفروض أن يتجرد الجيش كله لله ،أن يريد كله الآخرة.. ساعتها يؤتيه الله ثواب الدنيا والآخرة.
قال تعالي تعليقا علي معركة أحد في سورة (آل عمران):
(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَي المُؤْمِنينْ) سورة آل عمران
عفا الله تعالي عن الخطأ.. واستدار المسلمون يحصون قتلاهم ويضمدون جراحهم.. وتساءل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن عمه حمزة.. فلما رآه في القتلي وقد مثل الكافرون بجسده، قال وهو يبكي: لن أصاب بمثلك أبدا..
ثم وقف صلي الله عليه وسلم وأثني علي ربه عز وجل. وأمر برد القتلي من المسلمين إلي مضاجعهم التي قتلوا فيها، وكان أهلهم قد حملوهم إلي المقابر.. وراح النبي يجمع بين الرجلين من قتلي "أحد" في ثوب واحد.
ثم يسأل: أيهما أكثر أخذا للقرآن..؟ فإذا أشير إلي أحدهما قدمه في اللحد..
وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلهم.
وأراه الله تعالي كيف يبعثون يوم القيامة، فحدث الناس قائلا:
- ما من جريح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة ينزف جرحه. اللون لون الدم. والريح ريح المسك.
لم يكن الألم العميق هو الدرس الذي وعاه المسلمون من معركة أحد. جزاء سريعا لعصيانهم أمر الرسول وعدم طاعته.. إنما تنزل الوحي ببقية الدروس المستفادة، وكان أخطر هذه الدروس بعد درس الطاعة، هو بيان المركز الذي يجتمع حوله المسلمون..
ليس شخص رسول الله صلي الله عليه وسلم هو المركز الذي يجتمع المسلمون حوله، فإذا رحل شخصه الكريم لسبب من الأسباب انفض المسلمون وانصرفوا.
لا ينبغي أن يكون "شخص" الرسول هو المركز، إنما "فكره" هو الأهم والأخطر.
وهكذا عاتب القرآن الكريم من ألقي سلاحه حين انتشرت شائعة قتل النبي صلي الله عليه وسلم. إن الإسلام لا يبلغ منتهاه إذا كان المسلمون سيتجمعون حول الرسول في حياته، فإذا مات أو قتل انقلب كل واحد يرمي سلاحه وينصرف لشأنه. المسلمون أتباع مبادئ، لا أتباع أشخاص.
وليكن محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم سيد البشر وإمام المرسلين وخاتم النبيين وخير خلق الله.. ليكن هذا كله وأكثر. لا يبرر هذا كله أن يرمي المسلم سلاحه إذا مات الرسول أو قتل. علي المسلم أن يحمل سلاحه فلا يرميه من يده إلا في حالة واحدة من اثنيين.. أن ينتصر أو يموت. قبلها.. لا يكون إلقاؤه للسلاح إلا فرارا من المعركة..
كان النص القرآني واضحا أعظم الوضح في ربط المسلمين بعقيدة الإسلام لا شخص الرسول. قال تعالي تعقيباً علي معركة أحد:
(وَمَا مُحَمَدٌ إِلاَّ رَسوُلٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلْ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلْ اِنْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُّرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينْ) سورة آل عمران
مضت معركة أحد بجراحها الغائرة بعد أن تركت آثارا عميقة في نفس النبي صلي الله عليه وسلم.. وهي آثار لازمته إلي آخر عهده بالدنيا. ففي الأحضان القاسية لجبل "أحد" الذي يحرس المدينة، أودع الرسول أعظم رجال الإسلام وأقربهم من قلبه. كان قتلي أحدهم خلاصة المسلمين وأكثرهم إيمانا، كانوا هم صفوة الصفوة من المسلمين الأوائل، حملوا أعباء الدعوة أيام الوحشة الأولي، وعادوا في سبيل الله الأقرباء والأصدقاء، واغتربوا بعقائدهم قبل الهجرة وبعدها، وأنفقوا وقاتلوا، وصبروا وصابروا، وحين جاءت لحظة الخطر الكبري وأحيط بجيش الإسلام واقتربت السيوف من رسول الله.. صنعوا من دمائهم بحرا أغرق الكافرين وحمي الرسول وغير مجري المعركة وأنقذ عقيدة التوحيد.
ولم تكن معركة أحد هي أولي تضحيات المسلمين ولا آخر معاركهم. هي معركة واحدة من المعارك العديدة التي خاضها الإسلام لنشر كلمة الله في الأرض، وتبليغ عباده.
ولم تكن تضحيات الرسول في معركة أحد هي أولي تضحياته للإسلام ولا أخراها، فقد عاش رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد بعثه إلي الناس حياة لا يملك فيها نفسه، ولا يملك فيها وقته، ولا يملك فيها راحته.. عاش يعطي كل شيء للدعوة.. حارب كل أنواع الحروب، واحتمل كل ألوان الاحتمال، وقاسي العذاب أشكالا وصنوفا.. ولم يكن يفرغ من مشكلة إلا ليواجه أخري، ولم يكن ينتهي من حل أزمة إلا ليواجه أزمة أخري.. وهيمن الصراع علي حياته صلي الله عليه وسلم، وحكمها منذ البداية إلي النهاية..
تأمل حياة الرسول صلي الله عليه وسلم من أي زاوية تحبها.. أبدأ دراسته من أي مستوي تختاره. لن تعثر إلا علي قصة صراع عظيم.
خاض النبي صراعه العسكري الممثل في عديد من المعارك المتشابكة المتلاحقة، وخاض النبي صراعه السياسي الممثل في المعاهدات ورسائله لدعوة الملوك والأباطرة ورؤساء الدول حوله إلي الإسلام، وخاض صراع علي المستوي النفسي ومعارك الأعصاب.. ولم تخل حياته الخاصة ولا بيته من الصراع، وكان المحارب في كل وقت وأي وقت. كان إبراهيم هو المسافر دائما إلي الله، وكان محمد هو المحارب دائما في الله.
لم تكد معركة أحد تنتهي حتي بدأت آثارها السيئة في المسلمين.
تجرأ أعراب البادية عليهم، وتجرأ اليهود عليهم، وتجرأ المنافقون عليهم. وتجرأت قريش عليهم، وأطلت المخالب التي كانت تخبئ نصالها وراء حرير القفاز.. ونشط النبي لخوض معاركه العسكرية.