العودة للصفحة الرئيسية

حادث الإفك
وحين رأي أعداء الإسلام المحدقون به أن قبضتهم العسكرية حول رقبة الإسلام تنهار، عمدوا إلي أسلوب جديد في الحرب.. هو الحرب النفسية وإطلاق الشائعات، أو ما سماه القرآن الكريم بحادث "الإفك"..
بعد غزوة بني المصطلق، وهي غزوة كانت تحمل نصرا سريعا للمسلمين، تشاجر خادمان طائشان من خدم القوم علي الماء، فصاح أحدهما: يا للمهاجرين.. وصاح الآخر: يا للأنصار.
والتقط الحادث التافه أحد رءوس النفاق، وهو عبد الله بن أبي، فراح يؤجج الأنصار علي المهاجرين، ويحاول أن يثير نعرات الجاهلية القديمة التي دفنها الإسلام، وقال فيما قاله: أو قد فعلوها، نافرونا وكاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل..
ونقل زيد بن أرقم كلمة المنافق إلي النبي.. وكانت الكلمة بما تلاها من كلمات تحاول أن تثير الأنصار علي المهاجرين وتوقع بينهم وتفتت وحدتهم.. وأسرع المنافق إلي الرسول ينفي ما قاله.. وأخذ المسلمون بالظاهر وصدقوا كلمات المنافق واتهموا سمع الناقل.. غير أن الحقيقة لم تخف علي النبي، صلي الله عليه وسلم، فأحزنه ما حدث، وأصدر أمره بالرحيل في ساعة ما كان يسير في مثلها، ومشي بالناس سائر اليوم حتي سقط الليل عليهم، وسار بهم طيلة الليل حتي أصبحوا، ومعظم يومهم الجديد حتي آذتهم الشمس ثم عسكر بهم..
ولقد تمخض هذا الرحيل السريع المفاجئ عن أكذوبة نسج خيوطها المنافق عبد الله بن أبي، هي أكذوبة كان هدفها هو نفس هدف الحريق العمد.. حين حاول إشعال النار في بيت الرسول.. وما دام الرسول قد صار إلي حال من القوة التي تخيف من يحاول هزيمته عسكريا، أو اغتياله غدرا.. فلا بأس من تجربة الأغتيال النفسي والمعنوي لزوجة من زوجاته وأم للمؤمنين وطفلة تنتسب إليها البراءة أكثر ما تنتسب هي إلي البراءة.
وكانت عائشة، رضي الله تعالي عنها، قد خرجت تقضي حاجتها وفي عنقها عقد، فلما فرغت انسل العقد من عنقها وهي لا تدري، وحين عادت إلي القافلة كانوا يتهيئون للرحيل، وعادت تبحث عن عقدها حتي وجدته.. وجاء من يحملون هودجها فحملوه وهم يظنون أنها داخله، وشدوه علي البعير ولم يراودهم الشك في أنها لم تكن فيه لنحافتها وخفة وزنها.. وسار جيش النبي وهو يحمل هودج عائشة الخالي..
عادت هي فاكتشفت أن القوم قد رحلوا.. أصابتها الدهشة لهذا الرحيل السريع، وأدركها الخوف وهي تقف وحدها في الصحراء.. وتصرفت أفضل تصرف ممكن.. جلست في مكانها، حيث كان بعيرها، والتفت بثيابها وقالت لنفسها: سيكتشف الناس غيابي فيعودون إلي البحث عني ويجدونني..
كان صفوان بن المعطل قد تخلف لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، وأقبل يمشي من بعيد فرأي مخلوقا لم يتبينه، واقترب صفوان فاكتشف أنه يقف أمام عائشة.. وكان يراها قبل أن يضرب علي نساء النبي الحجاب..
قال صفوان حين رآها: إنا لله وإنا إليه راجعون.. زوجة رسول الله.. ما أخرك يرحمك الله..؟
لم ترد عائشة..
تأخر صفوان.. وقرب بعيره إليها وهو يقول: اركبي..
ركبت عائشة، رضي الله عنها البعير وأخذ صفوان زمامه وانطلق يطلب الناس.. كان جيش النبي قد أناخ.. وكان الناس يتصورون أن عائشة في هودجها، وفوجئوا بها تدخل عليهم، وصفوان يقود بعيرها..
وأسرع رأس النفاق عبد الله بن أبي يستغل فرصته السانحة.. فنسج من هذا المشهد المرئي قصة مختلفة، تتهم زوجة النبي بالخيانة..
وكان عبد الله بن أبي قد اختار نفرا من المسلمين استشف فيهم غفلة القلب التي تبلغ حد تصديق الظواهر.. أو أحس أن بينهم وبين عائشة من الحسد ما يثير الرغبة في نشر الأكاذيب عنها.. وهكذا أوقع رأس النفاق في حبال أكذوبته حسان بن ثابت، ومسطح، وامرأة تدعي حمنة بنت جحش، وهي أخت زينب بنت جحش زوجة رسول الله صلي الله عليه وسلم.. وانخدع الثلاثة بالأكذوبة ونشروها. وقال أهل الإفك ما قالوا.. وارتج العسكر، وعائشة لا تدري شيئا من ذلك.
ولقد كانت هذه الشائعة تستهدف النيل في الإسلام، وتجريح رسول الله، وكانت جزءا من الحرب الضارية ضد رسول الله صلي الله عليه وسلم وما جاء به من الإسلام، وكانت تستهدف إظهار الإسلام بمظهر العقيدة التي يقول أتباعها شيئا، وهم يتصرفون عكس ما يقولون، كما كانت ضربة موجهة لنقاء بيت وشرف سيدة.
عاد الجيش إلي المدينة، فمرضت عائشة وهي لا تدري شيئا عما تمضي به الألسنة حولها.. وبلغ الحديث رسول الله، كما بلغ والدها أبا بكر وأمها.. ولم يذكر أيهما شيئا منه لها.. أيضا لم يحدثها الرسول بما يشاع عنها.. كل ما حدث، أنه لم يكن يلاطفها كعادته حين تمرض..
كان إذا دخل عليها وعندها أمها تمرضها قال: كيف تيكم..؟ لا يزيد علي ذلك..
وبدأت عائشة، رضي الله تعالي عنها تغضب، حين رأت من جفائه ما رأت..
قالت له يوما: لو أذنت لي فانتقلت إلي أمي..
قال صلي الله عليه وسلم: لا عليك..
وهكذا انقلبت إلي أمها وهي لا تعلم شيئا.. شفيت من وجعها بعد بضع وعشرين ليلة.. وهي لا تدري شيئا عما يقال حولها..
حكت أم المؤمنين عائشة كيف عرفت بحديث الإفك.. وكيف أظهر الله براءتها.. قالت:
كنا قوما عربا، لا تتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها.. إنما كنا نخرج في فسح المدينة، وكانت النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن.. فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح. فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت: بئس- لعمر الله- ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرا!
قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟.. قلت: وما الخبر؟.. فأخبرتني بالذي كان من أهل الإفك.. قلت: أو قد كان هذا؟
قالت: نعم.. والله لقد كان..!
قالت عائشة: فوالله ما قدرت علي أن أقضي حاجتي.. ورجعت، فوالله ما زلت أبكي حتي ظننت أن البكاء سيصدع كبدي.. وقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟..
قالت: أي بنية، خففي عنك، فوالله لقل ما كانت إمرأة حسناء، عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن وأكثر الناس عليها...
قالت: وقد قام رسول الله، صلي الله عليه وسلم  فخطبهم ولا أعلم بذلك فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق؟.. والله ما علمت عليهم إلا خيرا.. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا.. ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.. قالت :وكان كبر ذلك عند "عبد الله بن أبي" في رجال من الخزرج.. مع الذي قال "مسطح" و"حمنة بنت جحش".. وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه تناصبني في المنزلة عنده غيرها.. فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا.. وأما "حمنة" فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني بأختها.. فما قال رسول الله، صلي الله عليه وسلم المقالة، قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من "الأوس" نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا "الخزرج" فمرنا أمرك.. فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.. فقام سعد بن عبادة- وكان قبل ذلك يراه رجلا صالحا- فقال كذبت لعمر الله، ما تضرب أعناقهم.. إنك ما قلت هذه المقاتلة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.
فقال أسيد: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين..
وتساور الناس حتي كاد يكون بين هذين الحيين شر، ونزل رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فدخل علي، ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فاستشارهما، فأما "أسامة" فأثني خيرا ثم قال يا رسول الله.. أهلك .. وما نعلم منهم إلا خيرا.. وهذا الكذب والباطل..
وأما "علي" فقال: يا رسول الله.. إن النساء لكثير.. وإنك لقادر علي أن تستخلف، وسل الجارية فإنها تصدقك..
فدعا رسول الله، صلي الله عليه وسلم "بريرة" يسألها، وقام إليها "علي" فضربها ضربا شديدا وهو يقول: اصدقي رسول الله.. فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا.. وما كنت أعيب علي عائشة، إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة وتأكله.
قالت عائشة: ثم دخل علي رسول الله وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار، وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثني عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس.. فاتقي الله.. وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس، فتوبي إلي الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده..
قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك حتي جف دمعي، فما أحس منه شيئا..
وانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يتكلما..
قالت عائشة: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا.. لكني كنت أرجو أن يري النبي، عليه الصلاة والسلام، في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي.. أما قرآنا ينزل في، فوالله، لنفسي أحقر عندي من ذلك..
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان، قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله، عليه الصلاة والسلام؟ فقالا: والله لاندري بم نجيبه. قالت: والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم، ما دخل علي آل أبي بكر في تلك الأيام.. ثم قالت: فلمَّا استعجما علي استعبرت فبكيت. ثم قلت: والله لا أتوب إلي الله مما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس- والله يعلم أني منه بريئة- لأقولن ما لم يكن.. ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني.. قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: أقول ما قال أبو يوسف:
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُونَ)...سورة يوسف
فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتي تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجي بثوبه ووضعت وسادة تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت، وقد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي.. وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله حتي ظننت لتخرجن نفساهما فرقا أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سري عن رسول الله فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: أبشري يا عائشة: قد أنزل الله عز وجل براءتك فقلت: الحمد لله.. ثم خرج إلي الناس فخطبهم وتلا عليهم الآيات:
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّي كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)...سورة النور
وهكذا تنزل الروح الأمين جبريل عليه السلام ببراءة عائشة مما نسب إليها من الإفك.. وانهارت الحرب النفسية ضد المسلمين وبيت الرسول..
وأيقنت طوائف الكفار أن عليها أن تلجأ لنوع جديد من الحرب..
ودخل الرسول صراعه ضد حرب الأعصاب..