العودة للصفحة الرئيسية

انتقاله إلى الرفيق الأعلى
استيقظ النبي فوجد نفسه وحيدا في الغرفة. كان جسده يلتهب من الحمي والألم.. ونادي عائشة وطلب منها أن تأتيه بماء يتبرد به.. ماء كثير.. وراحت أمهلت المؤمنين يصببن الماء علي رسول الله حتي اكتفي، وخفت الحمي قليلا عن جسده.
مضت الساعات بطيئة متثاقلة.. زادت وطأة المرض علي رسول الله صلي الله عليه وسلم أحس أنه لا يستطيع الصلاة بالناس.
وأمر أن يصلي أبو بكر بالناس.. وراجعته عائشة أكثر من مرة خشية علي أبيها من كراهية الناس وتشاؤمهم منه.. وغضب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمر أن يؤم المسلمين صاحبه في الغار.
في اللحظات التي تقع بين يقظة الألم وراحة النوم المتقطع.. كان ذهن النبي يفكر.. ما الذي نسي أن يقوله للناس.. لقد بلغهم كل شيء وعلمهم كل شيء وترك فيهم كتابا لا يضل بعده من يتمسك به.
ونعس الرسول قليلا. وعادت الذكريات تعبر رأسه.
رأي نفسه في حجة الوداع.
انتهت العهود المعطاة للمشركين وحظر عليهم أن يدخلوا المسجد الحرام.
وها هو ذا النبي يخرج أميرا للحج ومعلما للمسلمين مناسكهم..
ويتأمل رسول الله آلاف الموحدين وهم يتجهون إلي البيت الحرام، ملبين طائعين مسلمين، يحيون ذكريات جدهم إبراهيم خليل الله. ويقف النبي خطيبا في الحجيج.
إن هاتفا خفيا يشعره صلي الله عليه وسلم أن مقامه في الدنيا يوشك علي النهاية. وهو يحس أن هذا الركب سينطلق في الحياة وحده، فهو يركز له الدعوة، ويوصيه بالإسلام، ويدعوه إلي الله، ويسأل الناس قلقا بعد ثلاث وعشرين سنة من كفاح الدعوة إلي الله: هل بلغت..؟ ويشهد الناس أنهم سمعوا وأنه قد بلغ. ها هو ذا يدعو معاذ بن جبل.. ويعلمه كيف يدعو الناس إلي الله، وكيف يعرفهم دينهم، ثم يخرج معه إلي خارج المدينة يوصيه.. ومعاذ راكب، ورسول الله يمشي إلي جوار ناقته يوصيه ويحدثه ويعلمه. إن أولي الناس بي.. المتقون.. من كانوا وحيث كانوا..
وخرج علي جماعة من أصحابه فقاموا احتراما له فأمرهم ألا يقوموا له.. وكان إذا خرج للقاء أصحابه وتلاميذه جلس معهم في آخر مكان يجده.. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب أطفالهم ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الكبير والصغير، ويزور المرضي في أقصي المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ويبدأ من يلقاه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، فإذا جاءه أحد وهو يصلي خفف صلاته وسأله عن حاجته. فإذا فرغ من قضاء حوائج الناس عاد إلي صلاته، وكان أكثر الناس تبسما وأطيبهم نفسا.. وكان يخدم نفسه إذا دخل بيته ويخدم أهله.. فهو يغسل ثوبه ويرتقه، ويحلب شاته ويصلح نعله ويسقي البعير ويأكل مع الخادم ويقضي حاجة الضعيف والبائس والمسكين والمحزون.
وبلغ من طيبة نفسه ورقة قلبه أنه كان يترك أحفاده يتسلقون ظهره أثناء صلاته.. ولم تنتشر رحمته علي الإنسان وحده، وإنما جاوزتها إلي الحيوان والطيور والأشجار. كان يقوم بنفسه في فتح بابه لقطة تلتمس عنده ملجأ من البرد.. وكان يطعم الحيوانات بيديه ويسقيها ويرحمها ويقوم بنفسه علي تمريض كلب مريض. وكان يسمح لجواده بكم قميصه.. ولم يكن يقطع شجرة أو زهرة.. وأمر جيوش المسلمين وهي تفتح الأرض وتنشر عدالة الإسلام ألا يقاتلوا طفلا أو شيخا أو امرأة أو صبيا ولا يقطعوا شجرة ولا يهدموا بيتا.
لم يكن ما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم قانونا ينظم به العلاقة بين الإنسان والإنسان فحسب..
ولم يكن ما جاء به نظاما لرقي الحياة وتقدمها فحسب.. هذه كلها أمور نسبية.
إنما جاء بحضارة خالدة تنظم العلاقة بين الإنسان والكون، وتعيد إلي الوجود تناغمه حين تبني هذه العلاقة بين إنسان حي وكون مأنوس.. يتجهان معا.. الإنسان والكون إلي الله سبحانه وتعالي.
وقد ظل صلي الله عليه وسلم حتي آخر أيامه في الأرض مشغولا بمستقبل الدعوة، قلقا علي مصير الرسالة، مهموما بأمور المسلمين، معلق القلب بشئون أمته والأمم التي لم تأت بعد وربما حملت الإسلام اسما دون أن يتمكن هواه من القلب وبحكم الجوارح.
وأراه الله قبل أن يموت ما ملأ قلبه طمأنينة.
في فجر الاثنين الذي اختاره الرفيق الأعلي فيه..
أقبل المسلمون من بيوتهم إلي المسجد واصطفوا للصلاة خاشعين وراء أبي بكر، وهو إمام رقيق التلاوة يبكي إذا قرأ القرآن فيبكي من يصلي خلفه..
وخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من بيت عائشة.. وكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم.. وأفسحوا له مكانا بينهم، وأشار بيده أن اثبتوا علي صلاتكم .. وتبسم فرحا من هيئتهم في الصلاة.
قال أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة..
ثم رجع إلي فراشه.. والناس يظنون أنه أفاق من مرضه..
قالت عائشة: عاد رسول الله من المسجد فاضطجع في حجري.
ودخل علينا رجل من آل أبي بكر في يده سواك أخضر، فنظر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي يده نظرة عرفت منها أنه يريده.
فأخذته فألنته له ثم أعطيته إياه.
فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله، ثم وضعه.
أغمض النبي عينيه.
وجد جبريل يقف أمام قلبه.
قال جبريل عليه السلام: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله. إن ملك الموت يستأذن عليك. لم يستأذن علي بشر من قبلك ولن يستأذن علي بشر من بعدك.
إن الله يخيرك بين الملك والخلود في الدنيا وبين لقاء وجهه الكريم.
تجاوز النبي خلود الدنيا والملك فيها، وذوي قلبه حنينا إلي لقاء ربه عز وجل.
تذكر يوم عرج به جبريل إلي الله تعالي، ونبض وجدانه بنفس الفرح القديم والفناء المستطاب في الله، والسكينة الراضية.
والتقط جبريل رسالة النبي.
وأفسح مكانه لملك الموت..
ودخل ملك الموت حجرة النبي وهو يضع أجنحته ويصلي عليه.

 

السلام عليك يا سيدي يا رسول الله