العودة للصفحة الرئيسية

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبداية الجهاد
وراح النبي يؤاخي بين المهاجرين والأنصار... كان نصيب الأنصاري سعد بن الربيع، أحد أغنياء المدينة، أن يحظي بأخوة عبد الرحمن ابن عوف المهاجر.. قال سعد لعبد الرحمن: أنا أكثر الأنصار مالا، وقد قسمت مالي نصفين لك أحدهما.. ولي امرأتان فانظر أيتهما تعجبك كي أطلقها فتتزوجها..
ويرد عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك.. أين سوقكم؟
ويخرج عبد الرحمن إلي السوق ليعمل، يعود بما يطعم به نفسه، يرفض سماحة سعد وكرمه، ويعتمد علي إيمانه بالله وساعده وجهده.. ولا تمر أيام إلا وهو رجل يكسب ما يستطيع الزواج به... ويقدم لزوجته نواة من ذهب.
يوما بعد يوم... راح المجتمع الإسلامي يبني قواعده علي قيم العمل والحب والحرية والشوري والجهاد.
ليس العمل في الإسلام شقاء من أجل رغيف الخبز أو قطعة اللحم كما تقول حضارتنا المعاصرة.. إنما يتجاوز العمل في الإسلام هذا الإطار المادي، مستهدفا ذروة أخري
(وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون) سورة التوبة.
إن الاحساس بأن ما نعمله سيعرض علي الله ،يجعل للعمل مذاقا آخر ..مذاقا يتجاوز طعم الخبز واللحم..بعد العمل..يجيء الحب..
والحب في الإسلام ليس إحساسا يستقر في القلب، ولا يصدقه العمل.. الحب في الإسلام خطوة يومية تغير شكل الحياة حول الناس نحو الأرقي والأكرم..
يحب المسلم خالقه رب العالمين سبحانه، ويحب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، ويحب المسلمين ومن سالمهم، وإن اختلفت عقائدهم معه، ويحب الوجود والكائنات جميعا.. يحب الأطفال والحيوانات والزهور والرمال والجبال.. حتي الجمادات يشيع في قلب المسلم نحوها إحساس بالحب..
هذا الحب الذي يشيع في حياة المسلمين ويتجاوز الناس إلي الحيوان والجماد.. هذا الحب لا يتحقق بقرار، ولا يصدر به قانون، إنما يجئ عادة من اقتناع العقل والقلب بقيادة عظيمة تهوي إليها الأفئدة، وتقتبس من نورها العقول.. ولقد كان النبي صلي الله عليه وسلم هو هذه القيادة العظيمة.. كان نموذجا ومثالا أعلي وذروة..
كان أكثر الناس عملا للإسلام، وأقلهم جزاء منه واستفادة.. كان قائدا يعيش في تواضع أبسط الجنود.. فراشه نظيف ولكنه خشن، وبيته لا توقد فيه نيران الطهي إلا أياما قليلة معدودة كل شهر.. وطعامه الأساسي هو الخبز الجاف بالزيت.. وهمه الأكبر أن ينتشر هدي الإسلام.. وأدرك المسلمون أن كمال الإسلام لا يتحقق إلا إذا صار الله ورسوله مقدما علي حب الذات والمرأة والمال والولد والمصلحة والسلطان والحياة والآخرين وكل شيء.. وأحب المسلمون قائدهم أكثر مما أحبوا حياتهم ذاتها..
وإلي جوار العمل والحب، أقيمت دولة الإسلام علي قواعد الحرية والشوري والجهاد...
ليست الحرية في الإسلام حلية تضاف إلي جسم الإسلام، إنما هي نسج الخلايا الحي ذاته.. لقد حرر الله المسلمين من عبادة غيره.. وإذن تسقط كل القيود علي العقل والقلب والمجتمع.. والمسلم يملك في الإسلام حرية تتيح له أن ينظر في كل شيء بعقله، وأن يناقش كل شيء بعقله، وأن يقتنع بما يطمئن به وجدانه، وليست الحرية في الإسلام حرية مطلقة تصل إلي مشارف الفوضي.. إنما هي حرية مسئولة..
في نطاق النصوص القاطعة التي وردت في القرآن أو السنة.. لا حرية أمام المسلم غير حرية السباق حبا نحو التطبيق.. وفيما عدا ذلك، فالمسلم حر إلي ما لا نهاية، وباب الاجتهاد مفتوح إلي ما لا نهاية، لأن باب الاجتهاد هو العقل.. وقفل باب الاجتهاد يعني قفل العقول وإغلاقها وموتها في النهاية..
ولا يقبل الإسلام رجالا ماتت عقولهم أو تحجرت أو تخلفت.. الإسلام أصلا تعامل مباشر مع العقل والقلب..
أقيمت دولة الإسلام علي الشوري.. قال عز وجل:
(وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)...سورة آل عمران
والشوري هي الديمقراطية باصطلاحها السياسي الحديث، ولم يبين الإسلام شكل هذه الديمقراطية أو نوعها أو درجاتها، ترك هذا كله لعقول المسلمين واعتبارات الزمان والمكان.. نزل الدستور الأساسي وهو القرآن بالشوري..
والشوري هي تمثيل الأمة وحكمها لنفسها في كل منطقة.. باستثناء منطقة النصوص الحاكمة التي نزل بها الوحي أو حدث عنها الرسول.. هذه المنطقة يحكم فيها الله وحده.. وما عداها يحكمها الناس فهم أعرف بشئون دنياهم ومصالحهم واعتبارات الزمان..
ومع قيمة العمل والحب والحرية والشوري..، تجئ قيمة الجهاد تتويجا لهذا كله..
والجهاد في الإسلام نوعان: جهاد أكبر.. وهو جهاد النفس لنوازعها ورغباتها وشهواتها..
وجهاد أصغر.. وهو جهاد العدو، والإعداد له، والتفوق عليه، والأخذ بالأسباب..
وتحكم النصوص الإلهية الجهادين معا بأن يكونا في سبيل الله عز وجل...
ولقد بدأ النبي صلي الله عليه وسلم بالجهاد الأكبر ثلاثة عشر عاما في مكة.. وحين انتهي من صنع المسلمين علي عينه، صلي الله عليه وسلم.. بدأ جهاده الأصغر ولقد كان جهاده الأصغر سلسلة من المعارك الدامية العظيمة التي انتهت بانتصار الإسلام وانتشاره.. ولقد كان صعبا علي عروش الكراهية المنتشرة في الجزيرة العربية أن تحتمل دولة الحب والحق التي قامت في المدينة.
وهكذا تغير المنظر، واضطر الرسول الرحيم المسالم إلي أن يحمل سيفه ويرتدي درعه ويستعين بالقوة دفاعا عن حق دولة الحب الإلهي في البقاء وسط دول الكراهية العديدة المنتشرة... وبدأت المعارك بين المشركين والمؤمنين.
كان عدد الكافرين والمشركين كبيرا.. وكان الذين آمنوا قلة، وثار غبار المعارك، واختلطت الرمال بالعرق بتطاير السهام، وانعقدت سحائب الموت، وحطت طيور الرعب، وسالت الدماء، وانكسرت أسنان النبي في إحدي المعارك، وجرح رأسه الشريف فوقف يحارب ردمه ينزف دفاعا عن حق الإنسان في الإيمان بالله..
ورغم كثرة الكافرين وقلة المؤمنين.. انهزمت الكثرة...
انهزمت طبقا لقانون إلهي قديم يقضي بأن يغلب الله تعالي، ويغلب رسل الله تعالي، ويغلب أكثر الفريقين إيمانا بالله تعالي، وأخذا بأسباب النصر..
ويثبت علماؤنا اليوم، أن الحروب التي اشتبك فيها الإسلام، علي عهد الرسول، صلي الله عليه وسلم وخلفائه، كانت فريضة لحماية الحق، ورد المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة. بعد ذلك كانت حروب الإسلام لتحرير رقاب العبيد والمضطهدين، وليس يضير الإسلام أن يسخره أحد الحكام لإرواء شهوة الفتح.. يضير ذلك من استخدام الإسلام، بدلا من أن يستخدمه الإسلام...
ذلك أن الإسلام يستخدم الناس حين يستخدمهم- لا للفتح المجرد- وإنما للتحرير الذي ينطوي عليه الفتح، لا للاستعمار، وإنما للهدي، لا لإضافة قيود جديدة إلي قيود الناس، وإنما لفك قيودهم جميعا..
ذلك كان نوع حروب الإسلام بعد موته صلي الله عليه وسلم.. أما في حياته، فقد كانت حروبه كلها ردا للسيوف أن تهوي علي رقاب نساء وأطفال ورجال يؤمنون بأحدية الخالق وحب الكائنات..