العودة للصفحة الرئيسية

غزوة الخندق
كانت غزوة الخندق أكبر نموذج لحرب الأعصاب التي خاض صراعها النبي، صلي الله عليه وسلم.
وضع اليهود أيديهم في أيدي المشركين، وبدأت سلسلة من المؤامرات والأحلاف بين زعماء اليهود وزعماء المشركين من العرب، وأفتي أحبار اليهود أن ديانة قريش، التي تؤله الأصنام، أفضل من ديانة محمد، التي تقصر الألوهية علي إله واحد، كما أن تقاليد الجاهلية أفضل من تعاليم القرآن.. ونجحت سياسة اليهود في توحيد الأحزاب الكافرة وتوظيفها ضد المسلمين.. وتقرر الزحف علي المدينة في عشرة آلاف جندي.. وحملت الرياح أنباء المؤامرة إلي النبي لم يدهشه أن يتحد اليهود وهم أهل ديانة تدعو للتوحيد مع المشركين ضد ديانة تدعو للتوحيد أدرك النبي أن العهد قد طال علي اليهود فقست قلوبهم، وباعدت الأيام بينهم وبين النبع الصافي الذي فجره موسي، وانتهي بهم الأمر إلي أن صاروا ثمرة فاسدة غلافها علي رسم التوحيد، وعمقها البعيد مرارة الشرك..
وأخطر من هذا اتفاق مصالح اليهود والمشركين من العرب. ونشط النبي لمواجهة الخطر. أدرك أن الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة مكشوفة لن يكسب للمسلمين المعركة.. وراح يفكر في الدفاع عن المدينة بغير الخروج منها، تغير تكتيكه العسكري هذه المرة.. قبل ذلك كان يخرج من المدينة ويبتعد عنها ويهاجم من ينوي غزوها لصده، غير أن نوع الخطر يختلف هذه المرة، ويتغير تفكير النبي تبعا لاختلاف الخطر، ويعقد النبي اجتماعات عسكرية مع جنوده، يريد أن يستمع لاقتراحات الدفاع عن المدينة.. ويقترح سلمان الفارسي حفر خندق عميق حول المدينة، خندق يكون بمثابة مانع طبيعي يمنع السيل المنحدر من التقدم، خندق لا تستطيع الخيل اجتيازه، ويمكن للمسلمين الدفاع من ورائه..
وبدا الاقتراح شبه مستحيل، أو صعبا لدرجة الاستحالة، وتبني النبي اقتراح سلمان، وأدرك بحسه العسكري الملهم أن الموقف الخطير يستدعي بذل جهد أخطر لتجاوزه. وأمر النبي بحفر خندق حول المدينة.. كان العمل شاقا، والفصل شتاء، والجو مخيفا في برودته، وهناك أزمة اقتصادية تهدد المدينة، ورغم هذا كله بدأ حفر الخندق وتعميقه وتوسيعه.. اشترك النبي، صلي الله عليه وسلم، في أعمال الحفر وحمل الأتربة.. اشترك فيها وكان يقوم بأصعب المهام وأعظمها مشقة.. وتوهج المسلمون وانتهوا من حفر الخندق..
وكان شيئا عسكريا فريدا لم يسمع العرب بمثله من قبل، ولا ألفوه في الحروب، ورغم جهامة الحياة وجوع المسلمين وفقر أبنائهم وصحراء الكراهية التي عاشوا فيها، كانت روح الجيش الإسلامي في القمة، كانوا واثقين من نصر الله لهم.. قال تعالي في سورة (الأحزاب):
(وَلَمَّا رَأَي الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)...سورة الأحزاب
وانحدر جيش قريش علي المدينة.. تحولت المدينة فجأة إلي جزيرة من الحب وسط بحر هائل من الكراهية، وراح البحر يفور ويلطم الجزيرة محاولا إغراقها داخله.
وتطايرت سهام المسلمين تصد الجيش الكثيف المهاجم.. وراح الجيش يدور حول الخندق وهو دهش.. ما هذا الذي فعله المسلمون؟.. كيف استطاعوا حفر هذا الخندق؟.. وحاولت خيل العدو اجتياز الخندق في أضعف أجزائه، وصد المسلمون الهجوم..
واستمرت معركة الأحزاب.. كانت في جوهرها معركة أعصاب..
استمر حصار الأعداء ثلاثة أسابيع، لم تنقطع فيها الهجمات لحظة من نهار.. ولم تغلق فيها الأعين لحظة من ليل، وكان المسلمون من فرط الهول لا يعرفون هل احتلت المدينة أم لا.. وهل نفذ المهاجمون من إحدي الثغرات أم لا؟.. أحيانا كان مد السيل يخترق الخندق، وينفذ إلي المدينة، ويكاد يصل إلي بيت الرسول، صلي الله عليه وسلم، لكن هذا كله ينحصر بفعل مقاومة جبارة وجهد مدهش. وإذا كان تدفق السيل من ثغرة يتفق مع القوانين المادية الحاكمة، فقد كان انحسار السيل وعودته من نفس الثغرة التي نفذ منها يحتاج إلي معجزة.. وقد صنع المسلمون هذه المعجزة أكثر من مرة في حصار المدينة..
صور الله تبارك وتعالي الموقف في غزوة الأحزاب بقوله تعالي:
(إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً)..سورة الأحزاب
وزاد الموقف سوءا نقض اليهود لعهدهم من المسلمين، وانضمامهم إلي الأحزاب..
وهكذا نقضت قريظة عهدها ونسوا غدر بني النضير وإجلاء النبي لهم..
وراح الموقف يزداد سوءا كل يوم.. كانت أعصاب المسلمين هي التي تمتحن..
وحين وصل الخطر ذروته، سأل المسلمون الرسول ماذا يقولون؟.. حدثهم أن يقولوا: اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم..
ولقد خرج هذا الدعاء من أفواه قوم أدوا واجبهم وصنعوا معجزتهم في صد الهجوم، وإذن لم يعد باقيا لهم غير الدعاء.. والله تعالي هو السميع المجيب..
سميع لمن يؤدي واجبه.. مجيب لمن يستحق الإجابة.. وأدركت رحمة الله المسلمين..
وتطور سير المعركة علي نحو غير مفهوم.. أدرك المهاجمون أنهم هزموا.. إن لهم ثلاثة أسابيع يهاجمون بغير جدوي، ويفجرون عروقهم جهدا بلا أمل، ويمكن أن يظلوا هكذا ثلاث سنوات.. واشتد عواء الرياح وتثلج الجو، وبدأ التصدع الخفي في جبهة الأحزاب..
وجاءت ليلة لم ير المسلمون لها مثيلا في الظلمة أو الريح.. زاد سواد الليل، واشتدت سرعة الرياح، حتي لتطن فيها أصوات كأمثال الصواعق، ولم يعد أحد من المسلمين يستطيع أن يري أصبعه من فرط القتام، أو يقوم من مكانه بسبب البرد..
وجاء النبي إلي حذيفة بن اليمان.. لم يستطع رؤيته رغم أنه كان يقف إلي جانبه..
سأل النبي: من هذا؟
قال حذيفة: حذيفة..
قال النبي: حذيفة..
وتقاصر حذيفة في مكانه كراهية أن يقوم بسبب البرد والظلام، وخوفا من أن ينتدبه الرسول لعمل في هذه الليلة الليلاء...
قال الرسول لحذيفة: إنه كائن في القوم خبر فأتني به..
أحس حذيفة بفزع غامر، وثقلت عليه وطأة البرد.. إن ما يحسه من التثلج يجعله يخشي أن يلتفت، فكيف ينهض ويخرج من المدينة ويتوجه إلي جيش العدو ويتوغل في صفوفه ويأتي النبي بأخبارهم..
نهض حذيفة من مكانه حين انتهي النبي من كلامه.. دعا له النبي بخير.. انطلق حذيفة يمشي كأنه يمشي في حمام.. لقد أمره الرسول ودعا له، فانهزم الظلام والبرد خارج نفسه حين فاض باطنه بحرارة الإيمان.
خرج من المدينة، وتوغل في جيش العدو، أمره النبي ألا يتصرف أي تصرف.. ليعرف الأخبار وليعد.. هذه مهمته.. وصل حذيفة إلي قلب العدو.. كانوا يحاولون إيقاد نار، وكانت الرياح تأكلها قبل أن تشتعل.. وقريبا من النار يقف رجل أدهم ضحم، يمد يده إلي النار مستدفئا ويمسح خاصرته.. كان هذا الرجل هو زعيم المشركين "أبا سفيان"، ووضع حذيفة سهما في قوسه وأراد أن يرميه، ولو رماه لقتله وأراح المسلمين وأراح المسلمين منه، غير أنه تذكر وصية الرسول له ألا يتصرف أي تصرف.. ووضع قوسه إلي جواره وكمن.. وقال أبو سفيان:

  1. يا معشر قريش.. إنكم ما أصبحتم بدار مقام.. فارتحلوا فإني مرتحل..
  2. وقفز أبو سفيان علي جمله وهو بارك فجلس عليه ثم ضربه فنهض الجمل..

وعاد حذيفة إلي رسول الله لخبر انسحاب الأحزاب، وفشل الهجوم، وقال رسول الله، حين بلغته أنباء انسحاب العدو: الآن نغزوهم ولا يغزوننا..
لم يكد جيش الأحزاب ينحسر عائدا إلي بلاده وهو ينوء بثقل الفشل، حتي خرج من المدينة جيش يتجه نحو يهود قريظة.. لقد خان هؤلاء اليهود عهدهم مع النبي وغدروا بالإسلام في لحظة الخطر، وإذن فليدفعوا ثمن غدرهم الآن..
أمر النبي ألا يصلي الناس العصر إلا في بني قريظة.. وفهم المسلمون أن هذا يعني اقتحام حصون اليهود قبل أن تغرب الشمس.. وانهزم اليهود وجئ بهم إلي سعد بن معاذ ليقضي فيهم بما يري. وكان سعد سيد الأوس، وكان الأوس حلفاء يهود قريظة في الجاهلية، وتوقع اليهود أن تنفعهم هذه الصلة القديمة، كما تصور الأوس أن رجلهم سوف يتساهل مع حلفائهم القدامي. وكان سعد جريحا يمرض في خيمته بسبب سهام الأحزاب التي أصابته. وراح بعض قومه يناشدونه أن يحسن إلي اليهود حلفائهم القدامي، وراح اليهود يناشدونه أن يرفق بهم.. وقال سعد كلمته الشهيرة: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم.. وحكم سعد أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسم الأموال.. وأقر النبي هذا القضاء الحازم لسعد.. وقال له: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".. ولقد أدرك سعد أن الوساطات والتوسلات والرجاء ومراعة الاعتبارات القديمة، أدرك أن هذا كله في كفة، ومستقبل الإسلام في كفة.. لقد كان يهود قريظة هم السبب في غزوة الأحزاب، وإن دسائسهم وأحلافهم سعت وسوف تسعي لحصار الإسلام واقتلاعه.. وإذن تقلع الأشجار السامة من مكانها بغير شفقة..
وهكذا تم تطهير المدينة من اليهود..
وعاود النبي صراعه.. مضي صراعه العسكري جنبا إلي جنب مع صراعه السياسي.. وكانت ذروة معاركه السياسية، معاهدة عقدها مع قريش..