العودة للصفحة الرئيسية

مرض المصطفى صلى الله عليه وسلم
عودة الرسول بعد حجة الوداع :
عاد المصطفى صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع بمكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، ثم مرض بالحمى ، واشتد عليه المرض ، فانتقل من بيت زوجته ميمونة يمشي بين رجلين من أهله، وهما الفضل بن العباس ، وعلى بن أبي طالب ، والمصطفى عاصب رأسه، حتى دخل بيت السيدة عائشة لتمريضه هناك .
اشتداد المرض على الرسول :
ارتفعت الحرارة ، واشتد به الوجع ، فقال :" هَرِيقُوا علىَّ (أى صبوا علىَّ) سبع قِرَبٍ من آبار شتَّى ، حتى أَخرُج إلى الناس فأعهد إليهم (أى أوصيهم) " فَنُفِّذ أمره ، وصُبَّ عليه الماء، حتى طفق يقول :" حسبكم حسبكم".
وهذه أول مرة يشتد فيها المرض على الرسول ، فقد كان قوى الصحة ، زاهدا لا يأكل حتى يجوع، وإذا أكل لا يشبع ، محبا للرياضة البدنية ، محافظا على النظافة ، والبساطة في العيش ، والنظام في الحياة . ولم يشعر من قبل بمرض شديد كهذا.
ومع ما كان يشعر به من شدة الألم والمرض خرج عاصبا رأسه ، حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلي على أصحاب أحد ، واستغفر لهم، ثم قال :" إن عبداً من عباد الله خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده . فاختار ما عند الله".
فأدرك أبو بكر أنه صلى الله عليه وسلم يريد نفسه ، فبكى وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا .
فقال الرسول الصبور القوى الإرادة : على رسلك يا أبا بكر (أى مهلا) . ثم قال : انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدوها ، إلا باب (بيت ) أبي بكر ، فإني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه.وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن صحبة وأخاه إيمان حتي يجمع الله بيننا عنده ". فأغلقت جميع الأبواب التي تؤدى إلى المسجد ما عدا باب أبي بكر.
إمارة أسامة بن زيد على الجيش :
قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة ابن زيد، وهو في مرضه، فخرج عاصبا رأسه ، حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إِمْرَةِ أسامة (جعله أميرا وقائدا للجيش) : أَمَّرَ غلاما حَدَثاً على جِلَّة المهاجرين والأنصار . حدثا :شابا ،جلة :العظماء
فحمد الله ، واثني عليه بما هو له أهل ، ثم قال :" أيها الناس :أنفذوا بَعْثَ أسامة فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً بها " بعث:إرسال.
والحق أن المصطفى كان حكيما بعيد النظر ، سديد الرأى ، مصيبا في كل ما يقول ، وكل ما يفعل ، فقد جعل أسامة بن زيد بن حارثة أميراً على جيش فلسطين ، وهو شاب لا يتجاوز العشرين من عمره ، لكي يحل محل أبيه الذى استشهد في غزوة مؤتة ، ويبث في نفوس الشباب المسلمين القوة والحمية ، ويجعلهم موضع ثقة لقيام بالأمور الجسام ، التي تحتاج إلى همة وشجاعة وإقدام .
إمارة أسامة وأبيه من قبل أعظم درس في (الديمقراطية ):
لقد أراد الرسول العظيم أن يقدم للعالم الإسلامي درسا في المساواة و(الديمقراطية )، وترك المفاخرة بالأحساب والأنساب ، فجعل زيد بن حارثة بعد أن حُرِّر من الرق والعبودية – رئيسا للجيش، فاستشهد فجعل ابنه اسامة قائدا للجيش بدلاً من أبيه ، مع وجود عدد من كبار المهاجرين ، وعظماء الأنصار ، ليمنحهم درسا في وضع الرجل الصالح في المكان الذى يصلح له، ولو كان شابا ، لكفايته الشخصية ، ومقدرته الممتازة، من غير تفكير في حسب أو نسب ، أو جاه أو سن ، أو لون، أو عصبية، أو طائفية.
وقد أوصى الرسول أسامة بما يجب أن يفعله ، كي يعود ظافرا متنصرا .
استوصوا بالأنصار خيرا :
وبعد أن نزل عن المنبر قال :" يامعشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون ، والأنصار على هيئتها لا تزيد . وإنهم كانوا عيبتي (خاصتى) التي أويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ثم سكت ، وسكت الناس ، كأن على رءوسهم الطير" .
خطبة صلى الله عليه وسلم في مرض موته:
كان الرسول موعوكا ، معصوب الرأس ، يشكو ألم الحمى . ومع شدة مرضه ذهب إلى المسجد ، وقدماه لا تستطيعان حمله ، ثم جلس على المنبر ، وقال للفضل بن عباس : ناد في الناس ، فاجتمعوا إليه ، فقال :
أما بعد :أيها الناس ، فإني أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو ، وإنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم (أى غياب) ، فمن كنت جلدت له ظهرا ، فهذا ظهري فليستقد منه . ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقد منه . ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه. ولا يخش الشحناء من قِبَلِي (أى العداوة)، فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبَّكم إلى من أخذ مني حقا إن كان له ، أو حَلَّلَني فلقيت ربي وأنا طيب النفس (جعلنى فى حِّل)، وقد أرى أن هذا غير مُغْنٍ عني حتى أقوم فيكم مراراً".
فادَّعى عليه رجل بثلاثة دراهم ، فأعطاه عِوَضَهَا . ثم قال :" أيها الناس ، من كان عنده شيء فَلْيُؤَدِّه ولا يقل فُضُوح الدنيا ، ألا وإن فُضُوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ". ثم صلي على أصحاب أُحُدْ ، واستغفر لهم ، ثم قال :" إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده . فبكى أبو بكر ، وقال : فديناك بأنفسنا وآبائنا .
وفي هذه الخطبة تتمثل عظمة المصطفى ، وعدالته المطلقة ، فهو يعرض نفسه ليقتص منه من يشاء ولكنه كان صلى الله عليه وسلم معصوما من الخطأ مبرأ من كل عيب ، طاهراً كل الطهارة ، ويقف بجانب المظلوم ليأخذ له حقه ممن ظلمه ، ويعطف على الفقراء والمساكين ، ويدافع عنهم ويؤثرهم على نفسه وأهله ، فكان المثل الكامل ، والقدرة المثالية السامية ، في حياته وأخلاقه ، وأقواله وأفعاله.
ما عاناه الرسول العظيم :
رجع الرسول العظيم ، الصبور القوى العزيمة إلى بيت السيدة عائشة ، بعد خطبة الوداع وقد اشتد به المرض والألم ، فقد بذل مجهوداً كبيراً وهو يخطب ويفكر في شئون المسلمين ، وفي الأمة الإسلامية التي كونها ، وفي جيش أسامة ويفكر في الأنصار بعد موته ، واشتدت الحمى ، حتى أحس بالصداع الشديد من ارتفاع الحرارة . وفي الوقت الذى تقل فيه الآلام كان يسعى إلى المسجد للصلاة بالمسلمين .
والحق أن الرسول قد عانى كثيراً من العناء طول حياته ، فقد ولد يتيما، وتربى يتيما ، ولكن عناية الله كانت ترعاه وتحوطه دائما . وقضى بعد الرسالة 23 سنة في عناء وجهاد ، للدعوة إلى عبادة الله وحده ونشر الدين الحق وبذل من المجهود في سبيل القضاء على عبادة الأوثان والأصنام والكواكب ما لم يبذله أحد قبله من الأنبياء ، وقاس كثيرا من ألوان العذاب من كفار قريش والطائف ، وعانى كثيراً من اليهود في كل مكان ، وتعرض للكثير من المتاعب والأخطار ، ولكنه صبر وثابر ، واستمر يدعو بعقيدة راسخة وإيمان قوى، إلى دين الإسلام ، سرا ثم جهرا بعزيمة لا تعرف الكلل، وإرادة لا تعرف التردد، حتي نصره الله نصراً مبيناً ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وأقبلوا عليه من كل مكان ، معلنين إيمانهم بالله الواحد الأحد ، ورسوله المصطفى العظيم.
وقد احتمل المصطفى كل ما احتمل في سبيل تبليغ الرسالة إلى العالم كافة، واستمر قويا لا يحس مرض ، ولا يعرفه المرض ، حتى أكمل الرسالة ، ونشر الدين الحق ، وأتم الله عليه نعمته." اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لك الإسلام ديناً ".
فلما اشتد مرض الرسول خاف الصحابة والمسلمون ، وقلق بالهم واضطربت نفوسهم ، وحزنت قلوبهم . وكيف يترك المسلمون المدينة ويسافرون للحرب بقيادة أسامة ، وحبيبهم الذي يفدونه بأرواحهم وأولادهم وآبائهم ، ويفكرون فيه أكثر من أنفسهم ، ويجلونه كل الإجلال ، ويبجلونه كل التبجيل ، ويحبونه كل الحب ، ويخلصون له كل الإخلاص – يشكو شدة المرض ، مرض الموت.
فقد أدرك المصطفى وأدركوا من خطبته ونصائحه ووصاياه أن الساعة قد دنت بعد أن أدى الرسالة كاملة .
ولتنفيذ أمر الرسول جهز الناس الجيش ، وخرج أسامة ، وخرج جيشه معه، حتى نزلوا الجرف ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، ولكن المرض اشتد بالرسول فقام أسامة والناس بالمعسكر ، لينظروا ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في اليوم التالي لخطبة الوداع :
وفي اليوم التالي لخطبة الوداع حاول أن يصلي بالمسلمين كعادته ، فلم يستطع لشدة مرضه .فقال :" مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناس ".
قال عائشة : يا نبي الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، ضعيف الصوت ، كثير البكاء إذا قرأ القرآن .
قال المصطفى :" إنكن صواحب يوسف ، فَمُروهُ فليصل بالناس".
فكان أبو بكر رضى الله عنه يصلي بالناس، والرسول مريض .
وذات يوم غاب أبو بكر ، ودعا بلال إلى الصلاة ، ونودي عمر ليصلي بالناس : فقام عمر . فلما كبر ، سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر عالي الصوت .
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون يأبى الله ذلك والمسلمون .
قال ابن زمعة : فبُعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلي عمر تلك الصلاة فصلى بالناس .
فقال عمر لابن زمعة : ويحك ماذا صنعت بي ؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك . ولولا ذلك ما صليت بالناس .
قال ابن زمعة : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولكن حين لم أرى أبا بكر ، رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس .
محاولة علاجه :
وكان هناك دواء أتت به نساء جئن به من أرض الحبشة ، فوضعه عمه العباس فى شق فمه، وهو مغمى عليه . فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : من صنع هذا بي ؟
قالوا : يا رسول الله ، عمك العباس .
قال : ولم فعلتم ذلك ؟
فقال عمه العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب (مرض الجنب) : فقال :إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقذفني به. ثم أمر أن يتناول كل من في الدار هذا الدواء، ما عدا عمه العباس، فتناوله الجميع حتى ميمونة ، مع أنها كانت صائمة ، عقوبة لهم بما صنعوا به .
وفي تلك الليلة نام الرسول نوما هادئا ، وحتى ظن أن الدواء قد شفاه من مرضه.
ماذا فعل الرسول بسبعة دنانير كانت عنده قبل وفاته؟
وكان عند الرسول قبل مرضه سبعة دنانير ، فلما أفاق من إغمائه سأل عائشة : ما فعلوا بها ؟
فأجابت عائشة أنها عندها. فطلب منها إحضارها ، فأحضرتها، ثم قال : " ما ظنُّ محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه ؟" ثم وزعها على الفقراء والمساكين قبل وفاته.
في اليوم الذى اختاره الرفيق الأعلى :
وفي يوم الاثنين الذى اختاره فيه الرفيق الأعلى إلى جواره، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وهم يصلون الصبح ، وهو عاصب رأسه وأبو بكر يصلي بالناس ، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رأوه فرحا به، وتفرجوا (أى فرحوا) فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله فنكص عن مُصلاَّه، فدفع رسول الله في ظهره ليستمر في صلاته ، وقال : صل بالناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فصلي قاعداً عن يمين أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة أقبل علي الناس ، فكلمهم ، وتبسم رسول الله سرورا لما رأى من هيئة المصلين في صلاتهم .
قال أنس بن مالك :" وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة .
وظن الحاضرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بريء من وجعه فكلمهم الرسول رافعاً صوته، حق خرج صوته من باب المسجد ، وهو يقول :" أيها الناس ، سُعِّرَت النار (أى ألهبت)، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله ما تَمَسَّكون علىَّ بشيء، وإني لم أُحِل إلا ما أحلَّ القرآن، ولم أُحرِّم إلا ما حرم القرآن ".
فلما فرغ رسول الله من كلامه ، قال له أبو بكر يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل ، كما نُحِب .ثم استأذن أبو بكر الرسول في الذهاب إلى أهله ، فأذن له ثم دخل بيت عائشة.
 الصحوة قبيل الوفاة :
وقد فرح جميع المسلمين فرحا لانهاية له بما ظهر من تحسن كبير في صحة المصطفى ، وخرج يومئذ على بن أبي طالب كرم الله وجهه على الناس من عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فقال له الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال على :أصبح بحمد الله بارئا (في صحة ). وهذه هى الصحوة التي تحدث قبيل الوفاة .   


وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
عاد رسول الله من المسجد واضطجع في حجر عائشة ، فدخل رجل من آل أبي بكر ، وفي يده سواك أخضر ، فنظر إليه الرسول ، فعرفت عائشة أنه يريد السواك ،فأخذته وجعلته لينا، ثم أعطته إياه ، فاستاك به جيداً ، ثم وضعه .
وأحست عائشة أن المصطفي يثقل في حجرها ، فنظرت في وجهه، فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول :" بل الرفيق الأعلى من الجنة".
قالت عائشة : خُيِّرْتَ فَاخْتَرْتَ، والذي بعثك بالحق .
وتوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو في حجرها. فوضعت رأسه على وسادة . وكان ذلك حين اشتدت الضحى في يوم شديد الحرارة في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد تتمة عشر سنوات للهجرة، (8 من يونيه سنة 632م).
ما قاله عمر بعد وفاة الرسول الأعظم :
سمع المسلمون بوفاة المصطفى المختار، فلم يصدقوا ، لأنهم رأوه في الصباح معافى ، بارئا ، وفي صحة ، رافعاً صوته وهو يخطب في المسجد ، لم يصدق عمر أن رسول الله مات ، فقام وقال :" إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد توفي . وإن رسول الله صلي الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى . فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات".
فكان المسلمون في فزع ، وذهول واضطراب ، وأحاطوا، بعمر ، واعتقدوا أن المصطفى لم يمت، لأنه كان بينهم منذ وقت قصير، يصلي ويخطب، ويأمر بإنفاذ بعث أسامة ، ويوصي بالأنصار خيراً وينصح للمسلمين ، ويدعو لهم ، ويطلب منهم أن يقتصوا منه إن كان قد جلد لهم ظهراً أو شتم لهم عرضاً. 
موقف أبي بكر العظيم بعد وفاة المصطفى :
وإن المسلمين لفي حيرة وهول واضطراب ، وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر المحزن وعمر يكلم الناس ويخطبهم ، فلم يلتفت أبو بكر إلى شيء ، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ابنته، ورسول الله مُسَجًّى (مغطى) في ناحية من البيت ، عليه برد(ثوب ) من ثياب اليمن ، ثم أقبل عليه ، يُقبله، وقال :" بأبي أنت وأمي . ما أطيبك حيا، وما أطيبك ميتاً أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً . ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، ويقول لهم :" ان محمدا لم يمت ". والناس في شديد غمراتهم ، وعظيم سكراتهم.
فقال أبو بكر : عَلَى رَسْلِكَ يا عمر ، أنصت.
ولهول الموقف أَبَى عُمَر إلا أن يتكلم ، فلمَّا رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فخطب خطبة قال فيها:
خطبة أبي بكر بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى :
" أشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الكتاب كما نَزَل ,وأن الدين كما شَرَع، وأن الحديث كما حدَّث ، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين ...
أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمدا قد مات . ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .(ثم تلا هذه الآية) :" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم،ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ، وسيجزى الله الشاكرين ".
فبعد أن تلا أبو بكر هذه الآية، تذكرها الناس ، وقال عمر :" والله ما هو إلا أن سمعتا أبا بكر تلاها ، فَعَقِرْت (دهشت)، حتي وقعت على الأرض ما تحملني رجلاى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات".
فزال الشك من قلوب المسلمين ،وعلموا حق العلم أن الرسول قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ، بعد أن أدى رسالته كاملة ، وقام بما لم يقم به أحد قبله، واختار ما عند الله ، وترك هذا العالم الفاني وما فيه، وذهب إلى جوار ربه في عالم الخلود ، بعد أن أصلح الكون من الفساد، وقضى على عبادة الأوثان والأصنام ، وعلى وأد البنات وَهُنَّ على قيد الحياة ، ونشر ما أمر الله به من تحريم الخمر والميسر والربا ، ومن عبادة الله وحده، وأداء الصلاة ، وإعطاء الزكاة لمستحقيها من الفقراء ، وحج بيت الله الحرام للقادر، ونادى ببر الوالدين وصلة الرحم ، ومراعاة حقوق الجار والقريب والبعيد، والإيثار، والتعاون والحرية والإخاء والمساواة والعدالة والتسامح والعفو، والسلام والإنسانية ، والأخلاق الكريمة والمبادئ المثالية .
وقد كوَّن محمد العظيم خير أمة أخرجت للناس . فهل مات محمد حقا؟ إن محمد لم يمت كما قال عمر . ولن تموت أثاره الخالدة، وأفعاله العظيمة وأقواله المأثورة . وقد أصاب عمر في قوله :إن محمداً لم يمت ، لأن مبادئه السامية ، ومثله العليا حية إلى الأبد، ومحال أن تموت.
انظر إلى الحديث الآتي ، تجد كثيراً من هذه المبادئ :"أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها:أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغِنَى والفقر،وأن أعفو عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ونظري عبراً".
جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه :
مكث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيته حتى اختار المسلمون أبا بكر الصديق وبايعوه بالخلافة . وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول بعد عشر سنين للهجرة (9 من يونيه سنة 632م) غسل النبي عليه الصلاة والسلام وعليه ثيابه، وعلى يقول :بأبي أنت وأمي ، ما أطيبك حيا وميتاً.
وبعد أن انتهى من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب ، ووضع في سريره في بيت عائشة ، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلون عليه جماعة بعد جماعة .دخل الرجال وصلوا عليه ، حتي إذا فرغوا من صلاتهم أُدْخِل النساء ، حتى إذا فرغت النساء أُدْخِل الصبيان.
وحُفِرَ له لَحْدٌ فى بيت عائشة حيث توفي ، ثم دفن صلى الله عليه وسلم ، في وسط الليل ، ليلة الأربعاء ، الرابع عشر من ربيع الأول ، والمسلمون في حزن عميق، لفراق خاتم النبيين ، وأعظم المرسلين .
وقد ترك المصطفى للأمة الإسلامية كتاب الله الخالد الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسوله.وقد كان المثل الأسمى في العظمة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية ، والبر بالفقراء ، والعطف على الضعفاء . وعاش فقيرا زاهدا ومات فقيراً ، ولم يترك لورثنه شيئاً من المال. وترك هذا العالم وهو طاهر كل الطهارة، بعد أن أدى الرسالة كاملة ، وسنه ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة وثلاث عشرة سنة في مكة بعده ، وعشر سنوات في المدينة بعد الهجرة إليها.
وقد كان قدوة حسنة في حياته ، وبعد مماته، في أقواله وأفعاله وأخلاقه نشر الدين الحق . وقضى على عبادة الأصنام . وكوَّن خير أمة أخرجت للناس فهو خاتم النبيين، وأعظم المرسلين ، صلى الله عليه وسلم .