العودة للصفحة الرئيسية

العفو والتسامح:
ينبعان من قلب سليم وخلق كريم

وقد هيأه الله تعالى قبل البعثة، لِيَكوُن العفوُّ عن هفوات الناس، المتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلبا خاليا من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لا بد أن يكون نظره إلى ماهو أمامه ولا ينظر إلى الوراء والأحقاد والأضغان ،ومحاسبة كل امرىء على ما كان منه، إنما هى تشد صاحبها إلى الوراء، فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به فى المستقبل، بل يكون تفكيره فى شفاء غيظ من أسقامه التى كانت فى الماضى، ومن يأتى برسالة داعيا إلى الحق، لا يكون دُبُرِى النفس يشغله الماضى عن الحاضر: بل يكون عاملا للمستقبل. ربَّاه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فلا يشغل نفسه حقد.
ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال " لايبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
وإن هذه السماحة، وذلك العفو خلقه قبل البعثة، وكان خلقه عندما اشتد الأذى، فهو يعالج عنف قريش بالرفق فى القول، ويعالج الإيذاء بالصفح الجميل، الذى لا يمن به، ولكنه يهدى به من شاء الله تعالى، ولو لم يكن العفو أساسا، لطلب من الله تعالى كما قال تعالى عن نبيه نوح: ] وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ   لاَ   تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [ سورة نوح.
ولكن الله فضَّل بعض النبيين على بعض، ولكل أمة رسول تكون أخلاقه على ما يكون سبيلا لهدايتها ولإرشادها.
وروى أنها لما كذَّبت قريش النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالغت فى الأذى، ولما لجأ إلى ثقيف فى الطائف وأغروا سفهاءهم. أتاه جبريل عليه السلام فقال له: "إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم- فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال: مرنى بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين اللذين يحيطان بمكة المكرمة) قال النبي السمح الكريم "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون".
وذكر بن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، قال أؤخر عن أمتى، فلعل الله تعالى أن يتوب عليهم".
وإن سماحته عليه الصلاة والسلام ليبدوان فى عفوه عمن عادوه وآذوه وقاتلوه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى والقتل والقتال إلا سلكوه، وما تركوا كيدا إلا كادوه له، ثم آل الأمر إلى أن ينتصر عليهم نصرا مؤزرا.
عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطيب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود رآه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين" اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام.
إن الداعى بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين: أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضى، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان.
ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعى ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكى يتفرغ بكله للحقوق العامة.
وإذا كان ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس فكيف يكون الشأن ممن هو رسول رب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها.