العـــادل
قبل البعثة
الأمانة والعدل صنوان متلازمان، فلا يمكن أن يكون الأمين غير عادل ولا أن يكون العادل غير أمين؛ لأن الأمانة مراعاة الإنسان لحق غيره، لا ينكره ولا يجحده، والعدالة، تبتدئ من انتصاف الإنسان من نفسه، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى طلب أداء الأمانات بالعدالة فى الحكم، فقال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً[ سورة النساء.
ولقد اشتهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة، حتى صار اسمه "الأمين" ولما حكَّموا أول من يدخل البيت فى أمر الحجر الأسود، وكان هو الداخل الأول ارتضوه حكمًا، وفرحوا به، وقالوا إنه الأمين، وكان فى معاملاته كلها عدلاً، لا يغبن، ولا يخدع، وكان ينتصف من نفسه فى كل ما يتعلق به، كان ذلك قبل البعثة.
أهدت إليه أم المؤمنين خديجة قبل البعثة زيد بن حارثة، فكان مولى له، ولما عرفه أهله، وجاءوا إليه يريدون أن يفتدوه بثمنه، أعطاهم الرجل العدل، الحق فى أخذه، ولم يمارهم فى حقهم، بل إنه زاد فى العدل والإحسان، فقال: خذوه من غير ثمن إذا أراد الذهاب معكم، ولكن زيدًا رفض أن يترك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وَقَبِلَ أن يبقى فى قُرْبِهِ مَوْلَى، ولم يقبل الذهاب مع أسرته، وهنا يتحرك العدل مرة أخرى فى قلب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيتخذه له ولدًا، وقد كان سائغًا عند العرب، كما كان سائغًا عند الرومان، ويلحق المتبنى بنسب من تبناه، فكان يقال له زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان بمقتضى هذا الإلحاق قرشيًا، وتزوج على أنه قرشى، حتى نزل من بعد البعثة تحريم التبنى، وعدم إلحاق الدعيّ بنسب من تبناه. وكان قد أراد محمد بن عبد الله العادل صلى الله عليه وسلم أن يعوضه عن ترك أسرته بذلك التعويض الكريم.
ولقد كان الخصماء يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فقد روى أنه الربيع بن خيثم كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجاهلية قبل الإسلام، وذلك لما عرف به من الصدق والأمانة والاستقامة، وكونه لا ينطق إلا بالحق، ولا يتجه إلى غيره، ولا يرضى بالباطل أبدًا.
بعد البعثة:
لقد كان صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم، فيعطى كل ذى حق حقه، لا يلتفت إلى ما وراء ذلك، فلا غاية يطلبها إلا تحقيق العدل وإرادته، يعطى الرجل من الغنيمة بمقدار جهاده، وقد يعطى من يريد تأليف قلبه، وقد أسلم على حرف، فهو يعطى لعاعة من المال لمن يريد أن يتألفه، كما كان يعطى بعض القرشيين الذين أسلموا عند الفتح تأليفًا لقلوبهم وليستمروا على دينهم الذى دخلوه طوعًا من غير إكراه، ولكن لكثرة معاندتهم من قبل تَأَلَّفَهُمْ النبى صلى الله عليه وسلم ببعض من الصدقات.
ولقد كان يخشى لفرط إحساسه بالعدالة، ألا يلقى الله خالصًا من حقوق العباد؛ فقام، وهو مريض مرض الموت، وقد بلغ به الإعياء أشده وقال: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا، فهذا عرضى فليستقد منه، ومن أخذت منه مالاً، فهذا مالى، فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأنى، ألا وإن أَحَبَّكُم إلىَّ من أخذ منى حقًا، إن كان له، أو حللنى، فلقيت ربى وأنا طيب النفس».
ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ينهى عن الظلم بكل ضروبه، وأكل أموال الناس، وينهى عن معاونة الظالمين بكل أسباب المعاونة، وإنه يشدد فى ذلك، فهو يقول: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» وقال صلى الله عليه وسلم: «من مشى مع ظالم فقد سعى إلى النار، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ونهى المحكومين عن أن يسكتوا عن ظلم الحاكمين، لأنه معاونة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يأخذ الله تعالى العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا ولم ينكروا» وأوجب حمل الظالم على العدل، وحث على ذلك فى قوة، فقال صلى الله عليه وسلم: «والله لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذنَّ على يدى الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم».
وإن هذه الأحاديث تدل على أمرين عظيمين: أولهما – شدة تمسك النبى صلى الله عليه وسلم بالعدل والدعوة إليه والتشدد فيه، والاستمساك به، لأنه كمال فى ذاته، ويدل على استقامة النفس. وثانيهما – أنه يدعو إلى العدل الجماعى، لأنه هو الذى يستقيم به أمر الجماعة، فلا يظلم الرجل أهله، ولا يظلم الزوج زوجه، ولا القريب قريبه، ولا الرئيس مرءوسه، ولا الحاكم محكومه، ولا المولى مولاه، وإنه صلى الله عليه وسلم يقول فى حديث قدسى عن ربه: «يا عبادى إنى كتبت العدل على نفسى فلا تظالموا».
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يتولى الفصل فى خصومات المسلمين فى خاصها وعامها، ويأتى فى فصله بحكم الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكانت أقضيته تقصد القضاء بحكم الله تعالى،وتنفيذ ما أمر الله تعالى به من أمر وما نهى عنه، وكانت أحكامه عادلة، لا يحابى قويًا، ولا يهضم حق ضعيف.
ولما سرقت فاطمة المخزومية، وأهمَّ قريشًا أن يَقْطَعَ محمد صلى الله عليه وسلم يدها ذهب إليه حبُّهُ أسامة بن زيد فتشفع له فى ألاَّ يقيم الحد عليها بقطع يدها، فنهره صلى الله عليه وسلم قائلاً له مستنكرًا: أتشفع فى حد من حدود الله، ثم وقف خطيبًا يقول: «ما بال أناس يشفعون فى حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
فكان العدل الذى لا يمارى ولا يحابى فى حكم من أحكام الله تعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم ينظر فى الأمر عند الاختصام إلى لب القضية، فيتعرف المعتدى، فيحكم عليه، ولا ينظر فقط إلى المظهر.
وكان صلى الله عليه وسلم يلاحظ فى قضائه ثلاثة أمور:
أولهما – العدل بين الناس والمساواة بينهم فى تنفيذ أحكام الله تعالى لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء. وفى المأثور«الناس سواسية كأسنان المشط».
ثانيهما – أنه يلاحظ الأثر الاجتماعى لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره.
ثالثها – أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة فى فصاحة منهم وعجز غيرهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم وهو العدل الأمين: «إنكم تختصمون إلى، ولعلَّ بعضكم ألحن بحجته من الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار».
وفى الحق أن النبى صلى الله عليه وسلم كان عدلاً فى ذات نفسه، وعدلاً فى كل ما يقوم به، وعدلاً فى أحكامه.
وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وإنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم، ولم يضيّع حقًا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه.
وكان يعوض من يهدى من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادى من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو صلى الله عليه وسلم يبادل المحبة بالمحبة فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة، ويدعو إليه الود.