العودة للصفحة الرئيسية

وفور عقله
لم يتوافر العقل فى إنسان كما توافر فى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ولو لم ينزل عليه الوحى ويخاطب من السماء لكان عقله وحده كافيا لأن ينشيء دولة ويقيم مجتمعا طيبا فاضلا. ولكن أتم الله تعالى عليه نعمته، فجعله نبيا مرسلا، فاجتمع له الكسب الذاتى بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنسانى والرسالة الإلهية الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية وما كانت أحداهما لتغنى عن الأخرى. فما كانت الرسالة تجيء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصية كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته. وما كانت الكفاية العقلية فى أسمى علوها بمغنية عن الرسالة، لأن العقل لا يمكن أن يكون وحده كافيا فى تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحى لا يفكر فيما بين يديه ولا يخترق الحجب والأستار إلى ما وراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار.
منذ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم والعقل المكتمل حليته العليا التى سما بها على الغلمان أترابه، فمنذ استوى غلاما، والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك لجده عبد المطلب الذى أخذه ليعوده أخلاق الرجال المكتملين.
وإننا ونحن نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، فهو قد نفر من عادات الجاهلية التى كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة. فلم نره يسجد لصنم قط، لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام، وعبادتها. فيستحلفه الراهب باللات والعزى فيقول الغلام: ما كرهت شيئًا كما كرهتها.
لقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه، لأنه سيكون حكم العقل والحق، وأى شخص غير عاقل وحكيم كان يهتدى إلى الحكم الذى يرضيهم جميعا، فيشركهم جميعا فى فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحة ولا خصومة ولا تفاضل بينهم، ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله ثم يحمله هو وحده انتهاء ويضعه فى موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل.
وإنه من المؤكد أن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كبح جماح هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغلمان وهو غلام، ولا ما يفعله الشبان فى باكورة شبابه ولا بعد أن صار رجلا سويا. اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القوى الذى يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى ولا تجمح به شهوة، وأنه إذا ضعف سلطان الهوى قوى سلطان الحق ،وإذا قلت حدة الشهوة،استقام حكم العقل،فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشهوة، والعاقل السيد هو الذى يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضل العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان أعقل قريش لأنه هو الذى لم يسيطر عليه هوى كسائر سادات مكة.
"وأما وفور عقله، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيرة، فضلا عما أفاضه من العلم وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر فى رجحان عقله، وثقوب فهمه، لأول بديعة، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه".. ولقد قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا. وفى رواية أخرى: فوجدت فى جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا.
ويقول ابن كثير: "معلوم لكل ذى لب أن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من أعقل خلق الله تعالى، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق فى نفس الأمر".
وإن مظاهر عقله بدت واضحة بعد البعثة فى سياسة رعيته، فقد كان الله يوحى إليه بالأحكام الشرعية، وما يجب من الرفق بالرعية، والأخذ على يد الظالم، وحماية الحق من الباطل، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفذ الحق فى رعيته، بالمسلك الذى يسلكه مختارا، مسددا، فإن تبين خطأ نبهه سبحانه وتعالى عليه إذا كان أمرا متصلا ببيان الشريعة وأحكامها.
اشتد أمر النفاق والمنافقين، وكثرت أضرارهم، فطلب عمر رضى الله تعالى عنه من محمد ابن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتلهم، فقال عليه الصلاة والسلام "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" ثم اشتد النفاق، حتى همَّ أهل كل بيت فيه منافق أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام : أين عمر، لو قتلتهم حين رأى قتلهم لأرعدت لهم أنوف هى اليوم تريد قتلهم.
فبهذا العقل الحكيم استقبل رسالة به، وبهذا العقل الحكيم أدار المدينة الفاضلة التى قامت على حكم الله تعالى وأمره ونهيه ، ونفذت فيها النظم الإسلامية.