هيبته:
ومع هذا التواضع الكريم غير الذليل، كانت هيبته فى القلوب أشد ما تكون هيبة الرجل الذى اختاره الله تعالى رسولا للعالمين.
ولقد وصف الواصفون مجلس النبى عليه الصلاة والسلام بين صحابته بما يدل على عظيم مهابته وقوة وقاره، وسمته، فقد كان مجلسه عليه الصلاة والسلام يحفه الوقار، ولا يتكلمون إلا إذا أذن فى القول، فإذا صمت صمتوا، لا يخرجون عن قوله، ولا يبعدون عن إرادته. ولكن فى تواضع واطمئنان.
وقد كان يرشد بعض النسوة، فكن يتسابقن فى سؤاله، فتصايحن عليه، فدخل عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهن يتصايحن فى تسابق إلى السؤال، فسكتن: فابتسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت سنه، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ماالذى أضحكك؟ فقال الرسول الكريم الرءوف الرحيم: هؤلاء النسوة كن يتصايحن على، فلما رأينك سكتن، فقال عمر: أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله. فقالت إحداهن: ولكنك أفظ وأغلظ. فأسكتها الرسول وقال القوى المهيب، نافيا للغلظة عن صاحبه: "لا، إن الشيطان لا يسير فى فج يسير فيه عمر".
ولم يكن عمر أشد هيبة من النبى بل النبى المهيب المحبوب، ولكنه يتطامن ليصل إلى القلوب، وهو لا يترك هيبته ترهب، ولكنها هيبته ما كانت إلا لترشد فالإرشاد غايته فى حاليه مهيباً متواضعاً.
ولكن إذا كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بَيَّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية.
وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام : "هوِّن عليك، فإنى لست بِمَلِك، أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".
وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان، فيثب التاجر إلى يد النبى عليه الصلاة والسلام يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله".
وقليل من الناس من يلتقى فيه التواضع والهيبة، وإن محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد وصل إلى أسمى درجات الهيبة، ونزل من التواضع إلى درجة يقرب فيها من كل ذى حاجة وذى ضعف، يأنس به الضعيف ويرجوه ذو الحاجة فى حاجته.
إن أكثر الذين يستكبرون ممن يحسون بضعف فى نفوسهم، ولا يجدون فى أنفسهم قدرة شخصية تفرض هيبتهم فيستعينون بالكبرياء وغمط الناس والتسامى عليهم، ليعوضوا النقص، ويخففوا الضعف، أو يخلقوا هيبة صناعية: مصدرها مال، إن ذهب فقد ذهبوا، أو منصب يتعالون به إذا ألقوا عنه أصيبوا بالصغار والضياع، أما ذو الشخصية المهية بتكوين الله تعالى، وبما منحه الله تعالى من علم وفضيلة وقوة نفس. فإنها لاتحتاج إلى المهابة الصناعية والغطرسة والاستعلاء بها على الناس، والاستهانة بهم، واستصغار أمورهم.