العودة للصفحة الرئيسية

عبادته قبل البعثة
نبينا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطا خطوة إبراهيم الأولى، هى إنكار عبادة الأوثان فقد أنكرها ابتداء، ولم يعترف لها بوجود، فما سجد لصنم قط، وما قدس صنما قط، وإذا استقسمه أحد، لا يقسم بها، ولما أراد (بحيرى الراهب) أن يستحلفه باللات رده، وقال أنه يكره ذكرها، وما كره ذكر شيء كما كره ذكرها، فأدرك محمد (عليه الصلاة والسلام ) حفيد إبراهيم ما أدركه إبراهيم، وعلم بالعقل السليم وفطرة الله تعالى ما علمه جده الأكبر إبراهيم.
وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ عابدا منذ أدرك سن التمييز، فكان عقله فى الله تعالى يفكر كيف يعبده، ثم يجد فى التفكير فى خلق الله تعالى عبادة، وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد أراه الله تعالى ملكوت السموات والأرض ليصل إلى إدراك ربه، فقد كان محمد بن عبد الله  صلى الله تعالى عليه وسلم منذ كان غلاما زكيا يرى فى خلق السموات والأرض والشمس والقمر، والنجوم المسخرات بين السماء والأرض عبادة، لا ينظر إلى السماء وأبراجها وزينتها، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشاها، لا ينظر إلى كل ذلك على أنها مناظر جميلة، وزينات باهرة، بل ينظر فى دلالتها فى الخالق، ولا ينظر إليها متعرفا سر الإضاءة فى الشمس، وإنما يتعرف منها سر الدلالة على المنشئ، والأرض والماء والزرع، والشجر والثمار. كل ذلك كان يستغرق تفكيره لا ليعلم كيف خلق، ولكن ليعلم من الذى خلق، وكلما أمعن بفكره تعرفا للخالق، واستدلالا عليه ازداد إيمانا به، وطلبا لرضوانه، واطمئنانا لنفسه.
اتجه إلى معرفة الخالق، وما يرضيه عاكفا على ذلك عكوف العابد فى صومعته، لا يطلب إلا إرضاء ربه، ولكنه لم يعلم ما يرضيه، ولا ما يكون نسكا له إلا ما توارثه العرب من حج البيت ومناسكه التى بقيت من عصر إبراهيم عليه السلام، ونزهت نفسه وقلبه ولسانه، حتى صار ربانيا بفطرته المستقيمة وقلبه السليم.
وكانت كل أعماله لإرضاء الله تعالى، فهو يخالق الناس بخلق حسن، لا يكذب ويتصدق ويقدم للناس الخير، لأنهم عيال الله، وقد صار كل شيء فيه لله تعالى،وقد صار قلبه المعلق بالله تعالى الخاضع الخانع، لا يرى فى الوجود إلا الله تعالى، ولا يحسب أنه إلا القانت له، الخاضع، ولكنه يجهل الشكل الذى يرتضيه لعبادته، فصار كله لعبادته، قلبا ولسانا وعملا وخلقا.
ولذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يُبْعَث عَزوُفاً عن أن يغشى مجالس قريش فى سمرها إلا أن يكون جدا يوجب الخلق الكريم مشاركتهم فيه كما شاركهم فى بناء الكعبة المكرمة، كما كان يحضر فى ندوتهم إذا جد الجد، وكما حضر حلف الفضول.
والسبب فى عزوفه عنهم أنه يبتعد عن مواضع يعزب فيها عن ذكر الله ويبتعد عن التفكير فى ذاته تعالت عن الشبيه، وتنزهت عن المثيل، وأنه يريد أن ينصرف الفكر فيه، والتفكير فى ذاته وإرضائه، خيرا من عبادة الحركات والمظاهر، فكانت حياته كلها لله تعالى.
ما كان يخرج من خلوته إلا لإسداء معروف، أو إطعام مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو لإقراء ضيف عز عليه إقراء، وإن ذلك كله عبادة، لأنه ما يقصد إلا وجه الله تعالى، وإرضاءه لله تعالى، وأى عبادة أعلى من ذلك شأنا.
ولقد كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يعلن أن التفكير فى الله وآلائه وخلقه أساس العبادة، وأنه لا عبادة من غير معرفة لله سبحانه وتعالى، ولقد قال على بن أبى طالب صفى رسول الله، وحبيبه المجتبى: "سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن سنته (أى طريقته) فقال: المعرفة رأس مالى. والحب أساسى، والشوق مركبى، وذكر الله أنيسى: والثقة بالله كنزى، والحزن رفيقى، والعلم سلاحى، والصبر ردائ، والرضا غنيمتى، والعجز فخرى، والزهد حرفتى، واليقين قوتى، والصدق شفيعى، والطاعة حسبى، والجهاد خلتى، وقرة عينى فى الصلاة".
قد كان من أحوال محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاعتزال إلا في مكرمة تؤثر، أو صلة رحم، أو إغاثة ملهوف، أو تحمل للكل. فعندئذ يتصل بالناس لينفعهم، ويتقرب منهم، ولا ينقطع حتى وهو فى عزلته، لأنه ما جاء إلا لخيرهم، فهى عزلة يسكن فيها إلى الله تعالى خالق الناس.
وكلما كانت تتقدم به السن تزداد عزلته، ويزداد تفكيره فى إرضاء الله تعالى، وتعرف صفاته، والوصل إلى عمل ما يرضيه فلا يريد غير الله.
وقد صارت العزلة خلوة يخلو فيها للعبادة، فقد ذكر الرواة أنه كان يتحنث (أى يتعبد) فى غار حراء، الليالى ذوات العدد، واستمر يزداد فى الخلوة والعبادة، وقال الرواة كان يتعبد شهرا كل عام، حتى كانت البعثة وهو فى خلوته فى غار حراء.
وكان عليه الصلاة والسلام يتزود لذلك ،ويمكث فيه الشهر للعبادة، وذكر الله تعالى ،وقد تكلم العلماء فى المنهاج الذى كان عليه الصلاة والسلام يتبعه فى عبادته ، أكان على شريعة من الشرائع السماوية السابقة.
جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير ما نصه:
اختلف العلماء فى تعبده عليه الصلاة والسلام قبل البعثة ، هل كان على شرع أم لا، وما ذلك الشرع ،فقيل شرع نوح، وقيل شرع ابراهيم وهو الأقوى ،وقيل موسى،وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به. هذا ما قاله ابن كثير وقبل أن نأخذه مأخذ التسليم مع تردد الأقوال بين نوح وابراهيم وموسى ننبه إلى أمرين من الضرورى التنبيه إليهما فى هذا المقام:
أولهما- أن الثابت من سيرة النبى عليه الصلاة والسلام ومن تقرير القرآن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأنه لم يكن على علم بكتب الديانات القديمة، فلم يعرف التوراة والإنجيل، وإن كانت فيهما بشارات برسول يأتى من بعدهما اسمه أحمد، ولم يكن بمكة المكرمة التى كانت محل إقامته مدارس للاهوت الموسوى أو المسيحى.
وبذلك يثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن على علم بالشرائع السابقة، وذلك هو الحق، وهو يتفق مع إعجاز القرآن فى أنه أتى بالصادق من أخبار السابقين بوحى من الله تعالى،إذ لم يكن عنده علم بهما.
وثانيهما:أنه كان بمكة المكرمة نفر قليل أنكروا عبادة الأوثان ،ولم يعبدوها ،وسموا حنفاء،وقالوا إنهم كانوا يتعبدون على بقايا من ديانة إبراهيم عليه السلام،
ولذلك سموا حنفاء،وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتحنف فى غار حراء،بدلا من يتحنث،وإنا نسوق ذلك لبيان أنه كانت هناك بقايا من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.   
وإنا مع تقديرنا لهذا نرجح أن عبادة النبى عليه الصلاة والسلام كانت بإلهام من الله تعالى من غير وحى، وقد كان دائم التفكير دائم الخشوع دائم التأمل فى الكون، فهو ابتدأ العبادة الفكرية، وربما عرف بعضا من صلاة إبراهيم. كما عرفت بعض مناسكه.
وأنه منذ بلغ سن إدراك المعانى الدينية كان دائم التفكير والتدبر لمعرفة الله تعالى ومحاولة إرضائه، ونرجح بهذا أنه كان يتعبد على ديانة إبراهيم، وأنه وصل إلى بعض أجزائها بالإلهام وبالرؤيا الصادقة وبالتعرف، وإنا نستبعد كل الاستبعاد أنه أخذ من التوراة والإنجيل، فما كان له علم بهما.
عبادته بعد البعثة:
هذه صورة صادقة أو مقربة من عبادته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، وهى تدل على أنه كان قواما لله تعالى طالبا مرضاته، وإذا كان لم يعرف شريعة إبراهيم على وجه الكمال، فقد عرف ما يكفيه لأن يكون عابدا يطلب رضا الله تعالى، وقد صفت نفسه فأدركت، وخلص قلبه فألهم. وعلم أن ملة إبراهيم كانت الفطرة المستقيمة والحنيفية السمحة، فاختارها، وسلك سبيلها.
فالعبادة المتجهة إلى الله تعالى كانت فى قلبه ونفسه، وكيانه وخلقه، قبل أن ينزل عليه كتاب هاد، قد أذهب حيرته، ووجد الكتاب ينير له السبيل، ويفصل الأحكام، ولا شك أنها تكون أهدى بعد هذا التنزيل.
ولقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك عنها عن عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت الصديقة بنت الصديق: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم، حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته، ولا تشاء تراه نائما إلا رأيته"، وقد روى فى الصحيحين البخارى ومسلم "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال عليه الصلاة والسلام : أفلا أكون عبدا شكورا". وفى الصحيحين أيضا عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخص شيئا من الأيام قالت: لا، وكان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستطيعه".
ومعنى الديمة فى الحديث أنه يحب الدوام على العبادة، ولا يحب الانقطاع عنها، وكان هو يستديم العبادة ولو كان فيها ما يشق، ولكنه لا يطب من المؤمنين إلا الاستدامة فى العبادة، وإن قلت ولذا يقول عليه الصلاة والسلام: "أحب الأعمال إلى الله دوامه، وإن قل".
وذلك لأن استدامة العبادة ولو قليلة تجعل المؤمن فى ذكر دائم لله تعالى، لا يغيب عنه سبحانه، فهو فى قلبه دائما، ويتحقق فيه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : "إن الله تعالى يحب الديمة من الأعمال".
ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو المؤمنين إلى التخفيف من الصلاة، والقراءة، وأن يصلوا بصلاة أضعفهم، حتى لا يكون فى الصلاة إرهاق، ورأى بعض أصحابه يصلى بالناس فأطال القراءة، مما شق على الناس، فقال: "فتان أنت؟" لأن التطويل يؤدى إلى فتنة من لا طاقة لهم على الإطالة.
ولكنه عليه الصلاة والسلام فى قيامه الليل كان يختار لنفسه الأشق، لأنه عليه الصلاة والسلام يطيق ما لا يطيقه عامة المؤمنين، فيختار لهم ما لا يشق عليهم، ولقد قال عوف بن مالك: "كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلى، فقمت معه، فاستفتح بالبقرة، فلا يمر بآية رحمة، إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه، يقول: سبحان ذى الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة. ثم سجد، وقال مثل ذلك".
وهكذا نرى عبادته عليه الصلاة والسلام فيها ذكر دائم، وتلاوة للقرآن دائمة، وكان يحرض أصحابه على أن يقرأوا وهو يسمع، فإذا ذكروه بأن القرآن نزل على قلبه، قال لهم إنه يحب أن يسمعه من غيره.
ومع دوامه على العبادة التى وصفها القرآن، ودعا إليها، وبينها عليه الصلاة والسلام، كان إذا سكت عن القيام بصلاة، أو إرشاد عام، دائم التفكير فى آلاء الله، والتأمل فى خلقه، ليدرك عظمته، وكمال سلطانه. فلم ينقطع عن عبادة التفكير التى ابتدأ بها قبل أن يوحى إليه، ولقد قال هند بن أبى هالة ابن خديجة "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة" وكان كثير الاستغفار، لأن الاستغفار عبادة فى ذاته، لأنه إحساس بوجوب الالتجاء إلى الله، وفيه إحساس بقصور ما يؤدى العبد من العبادة، واستصغار العمل إحساس بالحاجة إلى الله والقرب منه، وعظمته، وجلاله، وشعور بأن عمله مهما يكن كبيرا صغير بالنسبة لله تعالى، ومن يستكثر حسناته، كأن يمن على الله تعالى فى هذه العبادة، وإن الشعور بالاستغفار والالتجاء إليه بُعْدٌ عن المَّنْ.