حياؤه
الحياء صفة نفسية يظهر أثرها فى العمل على ألا يفاجئ الشخص الناس بما ينفرهم، أو بما لا يألفون، لا يظهر منه ما يخالف الفضيلة، فلا يعلن رذيلة، ولا أمرا لا يتلقاه الناس بالقبول، ويعمل على إرضاء النفس الجماعية ما لم يكن إثما، وهناك صفات تلتبس مع الحياء. أو يبدو بادى الرأى أنها تعارضه.
فقد ظن بعض الناس أن الحياء ضعف نفسى، وأنه قد يكون السكوت فيه نوع من الرياء، وذلك باطل، لأن الحياء الحقيقى ليس ضعفا، ولا ينشأ عن ضعف، إنما ينشأ عن الكمال لأن من عنده الحياء لا يحب أن يظهر منه إلا ما هو كامل ذاته، وألا يظهر منه ما هو مرذول فى ذاته أو يعده الناس مرذولا، وذلك ليس ضعفا، ولكنه نقاء وصفاء للمجتمع من أن ترنقه مظاهر الانخلاع من القيود الاجتماعية، والتحلل من الروابط الإنسانية التى تربط الأحاد ربطا نفسيا.
والحياء حماية للفضيلة، وتضييق على الرذيلة من أن تظهر، وإذا كان للحياء أثر فى شجاعة قول الحق، فإنه يحمل القائل على الدعوة إليه فى رفق من غير عنف، فيكون أجدى، وأشد تثبيتا، وأهدى سبيلا، وإن اقتضى الحق مجاهرة به تأخذ وصف القوة لا يمنعها الحياء.
وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال الله تعالى : "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها".
وإن مظاهر حياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبدو فى عامة أحواله، نذكر بعضا منها يدل على سائرها:
أن بعض أصحابه كانوا لفرط كرمه يتناولون الطعام، ثم يأخذون فى الحديث، فكان هذا يؤذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد يكون منه اضطراب فى بيته، وإقلاق لراحة أهله، وضيق فى ذات نفسه، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستحى من أن يأمرهم بالخروج، أو يطلبه إليهم أو يشير به بأى نوع من أنوع الإشارة، حتى تولى الله تعالى تعليم المؤمنين الأدب فى هذا المقام، وأعفى رسوله من أن يخالف قانون حيائه، فقال تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [ سورة الأحزاب
ومن مظاهر حيائه، وعدم المجابهة من غير ضياع للحق، أنه إذا كان قد بلغه عن أحد ما يكرهه، لا يجابهه بأنه فعل ما يكره فى الشرع، ولا يجبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان يقول: "ما بال أقوام يصنعون كذا أو يقولون كذا." فينهى عن العمل ويستنكره ولا يسمى فاعله.
ومن مظاهر حيائه صلى الله تعالى عليه وسلم، أن الفعل إذا كان يندر وقوعه، فإذا وقع لا يجابه صاحبه بالنهى، بل يحث أصحابه على أن ينبهوه، دخل عليه مرة رجل عليه ثياب معصفرة زاهية تبهر الأنظار مما رأى أنه لا يليق أن يكون لبسة الكاملين، فلم ينبهه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل بعد أن خرج أمر بعض صحابته أن ينبهه، وقد دفع إلى ذلك حياء النبى عليه الصلاة والسلام أولا- والرفق بالرجل من مرارة الإعلان ثانيا، ومنعه من أن يقع عليه خزى ثالثا.
ومن مظاهر حيائه، ولطف مودته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا لقى الرجل بوجه لا يتجه بصفحة وجهه إلى جانب آخر، حتى يكون محدثه هو الذى ينصرف عنه روى أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا استقبل أحدا بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه.
وروى أنس أيضا أنه كان إذا صافح الرجل أو صافحه لا ينزع يده منه، حتى يكون الرجل هو الذى ينزع يده، وإذا أراد رجل أن يسر إليه حديثا فى أذنه، فيحنى رأسه له، ويستمر حانيا رأسه، حتى يكون الرجل هو الذى ينحيه.
ونقول إن خلق الداعى يجذب إلى موضوع الدعوة، فلو كان الداعى فحاشا، أو صخابا، أو يغلب عليه أن يلوم وتقرع عباراته لنفر منه الناس، وما استجاب له إلا أهل الحق الصرف الذين لا يهمهم لون الدعوة بمقدار ما يهمهم لبها.
وإذا كان الخلق الطيب يجذب النفوس، ويوجهها نحو الحق، فإن الحياء أشد الأخلاق اجتذابا للنفوس، فإن الحياء يجعل صاحبه لا يفاجأ الناس بما لا يسرهم، بل يجيء إليهم من جانب ما يألفون، فلا تنفر النفوس، ولا تنشعب عن الحق، وإن عنف الداعى، وتفحش قوله يعوق دعوته، ويكون استثقاله مؤديا إلى رده.
وإذا كان مع الحياء لين فى الطبع من غير ضعف، وقوة فى الحق وصل إليه فى مداخل سهلة لينة،ولقد قال فى وصفه على بن أبى طالب أنه كان أوسع الناس صدرا وأصدق الناس لهجة. وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة.
ولقد كان لالتقاء الخلق الحسن اللطيف المعشر مع الحياء، والاستمساك بالحق مزيج من أخلاق كريمة، جعله لا يترك التنبيه إلى الحق فى رفق، وجعله يصل إلى ما يريد من إيغاله فى القلوب.