جوده عليه الصلاة والسلام:
الجود إذا لم يقصد به التفاخر، كان باب من أبواب الخير الذى يكون بالعطاء لذى الحاجة الذى لا يمتن فيه ولا يستكثر، بل يبذل سدا لحاجة محتاج، أو لإعانة مستعين، أو ليتصدق يرجو ما عند الله تعالى، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا، وهو بهذا خلق جماعى يربط المودة بين آحاد الجماعة، ولقد عد الحكماء أن الفضائل أربعة جعلوا منها الحكمة والشجاعة، والعفة والسخاء، فهو فضيلة عامة، لا تصدر إلا عمن يحس بحق الجماعة عليه.
ولقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جوادا يعطى ما فى يده ولو كان فى حاجة إليه، فهو علم المؤمنين أن يؤثروا على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.
ولقد ذكر ابن عباس فقال: "كان أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة".
فالجود صفة ملازمة له تعلو ولا تنزل تعلو فى رمضان، ويسمو علوها فى العشر الأخيرة من رمضان عندما يذكراه جبريل القرآن.
فكان من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يوزع كل ما يجى إليه من غنائم، ولا يبقى منها لنفسه شيًا، إلا ما يكفيه.
وما كان يرد طالب حاجة قط، حتى كان يبلغ به الجود (أن يجود بالموجود كله) بل إنه إذا لم يكن الموجود حمل عبء الدَيْن ليسد الحاجات، جاءه رجل يسأله حاجة، فقال ما عندى شيء، ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شيء قضيناه. ولقد قال عمر رضى الله تعالى عنه، وقد رأى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحمل ثمن البياعات، ليؤديه إذا لم يكن معه- قال له: "ما كلفك الله تعالى ما لا تقدر عليه" فكره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صاحبه ووزيره عمر الفاروق ذلك، لأنه لا يريد أن يحول أحد بينه وبين سجيته، التى فطره الله تعالى عليها، والتى جعلته فوق الكرماء والأجواد.
ولقد كان جوده من فرط اعتماده على الله تعالى مع اتخاذ الأسباب، ولأنه يؤثر على نفسه، ولأنه حمل نفسه سد حاجة أى محتاج، فهو جود من قبيل تحمل الأعباء لا من قبيل السخاء المجرد، لقد قال عليه الصلاة والسلام ، وصدق فعله قوله" من ترك مالا فَلِوَرَثَتِه، ومن ترك عيالا فإلىّ وعلىّ".
يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "كان رسول الله لا يدخر شيئاً".
وعن أبى هريرة أن رجلا جاء يسأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن مع الرسول مال فاستلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإن جود رسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليزيد؛ حتى إنه يخلع ثابته لم يطلبها، فقد روى الطبرانى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى صاحب بز (أى متجر)، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه فإذا رجل من الأنصار، يقول: يا رسول الله اكسنى قميصا، كساك الله تعالى من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، وبقى معه درهمان، فإذا بجارية فى الطريق تبكى، فقال: ما يبكيك فقالت يا رسول الله دفع إلىّ أهلى درهمين اشترى بهما دقيقا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين ثم انقلب، فإذا هى تبكى، فدعاها، فقال لها ما يبكيك، وقد أخذت الدرهمين، فقال أخاف أن يضربونى فمشى معها إلى أهلها، فسلم فعرفوا صوته.. ثم قالوا ما أشخصك بأبينا وأمنا، فقال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، فقال صاحبها: هى حرة لوجه الله تعالى لممشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير والجنة.
ولقد كانت عشرة دراهم مباركة ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بركتها فقال: "لقد بارك الله تعالى فى العشرة كسا الله نبيه قميصا، ورجلا من الأنصار قميصا، وأعتق الله تعالى منها رقبة، وأحمد الله هو الذى رزقنا بقدرته".
وكان عليه الصلاة والسلام ينفق ماله، ويحرض الناس على الإنفاق، وكان فى كرمه كثير الاعتماد على الله تعالى في رزقه، فهو يقول لبلال "أنفق بلال. ولا تخشى من ذى العرش إقلالا" ويقول عليه الصلاة والسلام " ما من يوم يصبح إلا وملكان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا".
وهنا نقول إن جود محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس جود من يعرض عن المال فلا يطلبه، أو جود من يجرد نفسه من أسباب الحياة، فلا يترك المال إذا جاء، بل يطلبه من أسبابه الحلال، الطبية التى لا خبث فيه قط، ولكن ليمر على يده مرورا، ليصل إلى الضعفاء واليتامى والأرامل والمساكين، فهو يعبر من يده الطاهرة الأمينة إليهم.
لقد كان تاجرا يكسب من التجارة لنفسه، ولزوجه الطاهرة الأمينة خديجة وتدر عليه الدر الوفير.
لقد ذكر عن عيسى عليه السلام الزهادة فى المال، وأنه لم يعمل على كسبه، بل تجرد منه، ومحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعيش ويكسب ويتجر فى صدر حياته ليحصل على المال، وينفق ما حصل عليه على الضعفاء، فهو قد سخر نفسه عاملا...
وفى كلٍ فضل، ولكن زهادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إيجابية، إذ أنها تكسب المال من الكسب الطيب، وذلك الكسب فيه نفع عام، لأنه إما زرع يأكل منه الإنسان، وإما عمل وكدح ينمى ثروة الجماعة، وإما نقل خيرات الأرض التى تفيض من إقليم إلى إقليم آخر بالتجارة، وفى ذلك نفع عميم.
ثم إن الكسب لا يبقى فى يد الجواد بل يفيض به على غيره، فهى زهادة إيجابية كادحة عاملة.