معجزة النبي في التنبؤ بالخوارج .. والإنذار بخطرهم .
لا ريب في أن المعجزة الكبرى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هى (القرآن) .. بيد أن الله أيده في حياته وبعد مماته ـ بمعجزات أخرى .. ومن هذه المعجزات الممتدة في الأزمان البعيدة (معجزة الحديث عن المستقبل والإخبار بما سيجرى فيه) .. والعقيدة الصحيحة اليقينية عند المسلمين هى : أن النبي لا يعلم الغيب بإطلاق .
إذ أن هذه صفة من صفات الله : " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " لكن هذه الآية العامة مستثناه بآية : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول " .. أي أن الله يطلع رسوله ـ بإذنه ـ على بعض الغيب .. يقول القرطبي : " يظهره على ما يشاء من غيبه " لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات " ومنها الإخبار عن بعض المغيبات ، فلا يظهر على غيبه إلا من ارتضى ، أي اصطفى للنبوة ، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته ، قال العلماء : لما تمدَّح سبحانه بعلم الغيب ، واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم " .. ويقول الطاهر بن عاشور : " واستثنى من هذا النفي (لا يظهر على غيبه أحدا) من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله من إخبار بما سيحدث " .
وتطبيقا على هذا : أيد الله نبينا بعلوم من الغيب ، تنبأ في هداها بما سيحدث في الزمن الممتد الذي سيعقب موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى .. ولا يكون ذلك إلا لنبي صادق معصوم .. وهذه (العلوم الغيبية) من معجزات النبي ، ومن أظهر هذه المعجزات ، وأصدقها ، ومن أقواها دليلا ، وأكثرها تجددا (معجزته في التنبؤ بظهور الخوارج) في الأمة الإسلامية ، إن الواقع التاريخي ، والواقع الراهن ، برهانان مبينان على صدق هذه النبوءة والمعجزة ، وهذه هى الأدلة الصحيحة الناطقة بمعجزة نبوءة (النبي) في الخوارج :
وفي رواية قال للنبي : اتق الله !! فقال النبي : " ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ، فمن يطع الله إن عصيته أنا ، يأمنني أهل السماء ولا تأمنوني ، يخرج من ضئضئ هذا (جرثومته) قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " إن هذا الأعرابي الجلف ، حمله جهله وصلفه وتدينه الفاسد على أن (يزايد) على النبي في العدل والتقوى ، وهذه طبيعة من طبائع الخوارج في كل زمان ومكان المزايدة على من هم أفضل منهم علما وتقى .
كان ذو الخويصرة التعس هذا (نابته الخوارج) ، الذين سيظهرون من بعد كما تنبأ النبي بذلك في قوله : (يخرج من ضئضئ هذا قوم) الخ .
أولا : النبوءة التي جاءت بصيغة (سين) الاستقبال ، قال النبي : " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة : قوم يحسنون الكلام ويسيئون العمل ، يدعون إلى كتاب الله عز وجل وليسوا منه في شيء ، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرتد على فُوقِه ، هم شر الخلق والخليقة " .
ثانيا : النبوءة التي جاءت بصيغة (آخر الزمان) قال . النبي : " يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان (صغار السن) سفهاء الأحلام (ضعيفو العقول) يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم إلى يوم القيامة " .
ثالثا : النبوءة التي جاءت في صيغة الاقتران بين وجود الدجال ووجود الخوارج قال النبي : " لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، هم شر الخلق والخليقة " .
رابعا : النبوءة التي جاءت في صيغة (البعدية) التي تعني ما سيقع من بعد .. قال النبي : " إن بعدي قوما من أمتي يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " .
خامسا : النبوءة التي جاءت في صيغة التنبؤ بـ (التأويل الفاسد) للقرآن .. قال النبي : " إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله " فاستشرف لها أبو بكر وعمر فقال النبي : " لا ولكنه صاحب النعل " وصاحب النعل هو الإمام علي بن أبي طالب حيث غاب عن هذا المجلس بسبب انشغاله بإصلاح نعل النبي .
صدق النبوءة
في الواقع تحدث النبي بهذه النبوءات المستقبلة وهو بين ظهراني الصحابة ، ولما تقم للخوارج قائمة ، كما لم تقم لهم قائمة في خلافتي أبي بكر وعمر .. فلما جاءت خلافة علي : ظهورا وتكاثروا وكانت لهم شوكة ، وهذا كله يدل على دقة (النبوءة) ففي الحديث الأخير (رقم5) : قطع النبي بأن التأويل الفاسد للقرآن لن يظهر في خلافتي أبي بكر وعمر ، وإنما سيظهر ويكون سبب الفتنة الدامية الطامة في عهد علي ، إذ ثبت ـ بيقين ـ أن النبي قصد عليا حين قال : " إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، ، كما قاتلت على تنزيله .. " والواقع التاريخي الموثوق يؤكد هذه النبوءة توكيدا ، فالإمام علي هو الذي قاتل الخوارج على (تأويل) القرآن ، حيث كان تأويلهم الفاسد لكتاب الله هو علة ضلالهم ، وسبب الفتنة الدامية التي باشروها .. يقول البخاري : " وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق ، وقد قال : أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين ".
نعم .. التأويل الفاسد الضال المضل هو : جرثومة إفسادهم في الأرض ، واستباحة الدماء المعصومة .. وفي حكمة بالغة ، ودقة متناهية ، ودلالة حافزة على الحذر واليقظة : ربط النبي بين التكفير والقتل فقال ، " لعن المؤمن كقتله ، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله " .
هى ـ من ثم ـ انحرافات متناسلة ، وضلالات مركبة : التأويل الفاسد المفضي إلى التكفير الذي هو باب القتل وقاعدته وذريعته .
ومن تمام نبوءة النبى وكمال صدقها :إن الخوارح أنفسهم بأفعالهم وأقوالهم (وثيقة تصديق لها فى الواقع).
وهذه نماذج من أقوالهم وأفعالهم : الموثقة لنبوءة النبي فيهم :
والتأويل الضال للقرآن ، وإطلاق التكفير لم يكونا مجرد حجج أو مجادلة نظرية ، بل انبنى عليها (عنف مسلح) ضد المسلمين بل ضد أكابر المسلمين وأئمتهم وهم أصحاب النبي ، وهذا النزوع العنيف المستحل لدماء أهل القبلة هو ذاته دليل على معجزة الرسول المتنبئة بطبيعة أفعالهم ومسالكهم ولقد قال النبي " يقتلون أهل الإسلام " وهذا ما وقع فعلا ، فقد قتلوا رابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب ، قتله شقي منهم اسمه عبد الرحمن بن ملجم ، كما قتلوا جمعا كبيرا من صحابة رسول الله الذين زكاهم الله في كتابه .
ولئن صدَّق الواقع التاريخي معجزة النبي في التنبؤ بالخوارج ، وتبليغه أمته عنهم ، وإنذارها بخطرهم ، فإن الواقع الراهن ليصدق تلك النبوءة أيما تصديق .
والسؤال الفيصل هو : أين ورثة النبوة من هذه المعجزة النبوية في الخوارج ؟ أين هم من التبليغ الموسع عن الخوارج ؟ وأين هم من الإنذار بخطرهم كما فعل النبى؟ وأين هم من وظيفة التفريق الدقيق الشجاع بين التدين الحق وبين التدين الباطل المارق من الدين ، وإن صلى صاحبه وصام وزعم أنه مسلم ؟ .